يعتبر مطبخ كل دولة جزءًا من ثقافتها يميزها عن غيرها من الدول، ليس فقط لأسباب ثقافية بل قد تكون تاريخية وسياسية أيضًا، فهل بحثت يوم عزيزي القارئ في تاريخ "البهارات" ونشأتها؟ بالرغم من بساطة الكلمة، إلا أنك قد تندهش عندما تعرف أن "البهارات" أو "التوابل" بصفة عامة لم تكن مجرد نكهات تضاف إلى الطعام، بل إنها في وقت ما كانت بمثابة شرارة أو سبب في ارتكاب مذابح تاريخية بحق الشعوب الأصلية التي تنتج بعضا من هذه التوابل، بل إنه تم احتلال بعض الأراضي بالكامل للحصول والسيطرة عليها.
وكان الشرق هو الكنز الحقيقي الذي لطالما بحث عنه الغرب ليحصلوا على كل ثرواته، فلقد نشأت المنافسة بين البرتغاليين والهولنديين والإنجليز والإسبان للاستيلاء على هذه الثروات بشتى الطرق الممكنة والتي قد تكون غير آدمية بالمرة.
وعندما بدأ عصر الاكتشاف عقب انتهاء الحملات الصليبية بدأ الغرب في إرسال حملاته للسيطرة على الأراضي التي تنتج التوابل، حتى إنه نشطت القراصنة في الاستيلاء على السفن المحملة بالتوابل كما غرق الكثير منها بسبب الحمولة الزائدة.
وقد تندهش عزيزي القارئ عندما تعرف أنه قد نشأت إمبراطوريات تجارية بسبب البهارات، واستعبد الكثيرون لزراعة التوابل وحصادها، فقد كانت البهارات أو التوابل لها أثير في قلوب الجميع سواء الشرق أو الغرب.
وفي بداية الأمر استخدم المصري القديم بعضا من البهارات والتوابل في تحنيط الموتى وكذلك في العصر اليوناني والروماني، كما يذكر التاريخ أن بلقيس ملكة مملكة سبأ عندما زارت النبي سليمان في القدس، جلبت معها كهدية مائة وعشرين رطلا من الذهب والبهارات والجواهر.
كانت وما زالت الهند هي الأشهر في زراعة مختلف التوابل والبهارات، حتى إن الفينيقيين كانوا يشترون تلك التوابل من الهند ليقوموا ببيعها إلى المصريين القدماء وذلك في القرن الـ 14 قبل الميلاد. وفي عهد الإمبراطورية الرومانية التي احتلت البحر المتوسط، اكتشفت الطرق التي تؤدي إلى البلاد التي تزرع بها التوابل، ويذكر أن كليوباترا كانت تأمر باستخدام التوابل في طهي المأكولات لكي تجذب يوليوس قيصر إليها، كما انتشر الزعفران بكميات كبيرة في شوارع روما. ولم تغب قبيلة قريش عن المشهد فكانت لها دور كبير في تجارة التوابل، وكانت الرحلات والقوافل تبدأ من مدينة مكة لشراء التوابل وبيعها وكان ذلك في القرن السادس بعد الميلاد.
ولم تكن التوابل والبهارات وخصوصا الفلفل الأسود في متناول الجميع، بل كانت على موائد النبلاء والأمراء والأغنياء لأنهم هم وحدهم القادرون على شرائها.
لم تستخدم التوابل والبهارات في طهي الطعام فقط، بل تم استخدامها أيضًا في علاج بعض الأمراض كعقاقير طبية أو في المساعدة على التداوي والشفاء، ومن ثم أصبحت الحوانيت التي كانت تبيع هذه البهارات عبارة عن صيدليات لعلاج المرضي.
وكانت مارسيليا هي مركز تجارة التوابل في القرون الوسطى، وكانت تصل من الإسكندرية في مصر إلى مارسيليا عن طريق التجار الإيطاليين الذين كانوا يتعاملون مع التجار العرب حينذاك، وكان الجميع يربح أموالا طائلة من تجارة التوابل والبهارات.
وفي عهد إيزابيل ملكة إسبانيا التي دعمت رحلات كريستوف كولومبوس الاستكشافية نحو الهند، حيث انطلق عام 1492 في سفينته للبحث عن الذهب والتوابل، كما أراد الإسبانيون والبرتغاليون السيطرة على الطرق التجارية لبيع وشراء التوابل ليكسروا احتكار التجار العرب لهذه التجارة، وبالفعل وصل البرتغاليون عن طريق رأس الرجاء الصالح وهو ما هدد العرب بالفعل.
وبعد أن كانت البهارات والتوابل في نفس أسعار الذهب والمجوهرات، انخفضت أسعارها بسبب زراعتها في بلاد عديدة ولسهولة الحصول عليها بوفرة، ولقد انتعشت زراعة البهارات في المناطق الاستوائية مثل الهند وإندونيسيا والمكسيك وجنوب غرب آسيا، كما استخدمت في بلاد الرافدين في زمن الدولة الآشورية كعلاج للأمراض بالإضافة إلى استعمالها في الطهي.
وكانت البهارات من أهم أسباب إمبراطورية بريطانيا التي لا تغيب عنها الشمس، حيث كان من أهم أسباب احتلال إنجلترا للهند بكاملها هو السيطرة على زراعة وتجارة التوابل والبهارات، ومن ثم كانت المنافسة بينها مع فرنسا وشن الحروب والصراعات التي امتدت سنوات بينهم.
وأما بالنسبة لمصر فكان يوجد في أقصى جنوب الصحراء الشرقية الواقعة على البحر الأحمر موقع يدعى "برانيكة"، كان يعتبر في الحقبة الرومانية سوقا تجاريا لبيع البهارات والتوابل التي كانت تأتي من الجنوب، وكان هذا السوق على بعد 500 ميل عن السويس، فكانت بذلك مركزًا رئيسًا للتجارة مع الإمبراطورية الرومانية، ولقد كشفت حملات التنقيب في هذه المنطقة عن وجود كثير من بقايا حبات الفلفل، كما عثر على نفس الحبات في ألمانيا وهو ما يدل على تطور تجارة البهارات ووصولها إلى قارة أوروبا في القرن الأول الميلادي.
وكانت من أهم أنواع البهارات والتوابل، القرفة والتي ذكر عنها المؤرخ هيرودوت أنه كان الحصول عليها أمرًا صعبًا للغاية، حيث كان التجار يذهبون إلى جزيرة سيرلانكا ليحصلوا عليها فيغطون أبدانهم ووجوههم إلا العيون لأنه كان بجانب البحيرات التي تنبت فيها القرفة يوجد طيور حادة جدا مثل الخفافيش فكان يجتهد التجار ومنهم العرب في الحصول على القرفة بدفعها عنهم حتى يقووا أعينهم، يأتي بعد ذلك القرنفل الذي كان يزرع في مدغشقر والهند. كما لاقى الفلفل الأسود والأبيض أهمية كبيرة بجانب كل من الزنجبيل، والكركم، والزعفران، والخولنجان وجوزة الطيب.
ويأتي بعد ذلك المسك الذي كان يعتبر دائمًا هو الطيب الأول الذي رغب به سكان غربي آسيا بخاصة الحضارات الجنوبية، وحين تم استيراده وشراؤه من قبل تجار القوافل استخدموه كطيب أولا، لكنهم من ثم استخدموه كتوابل في المطبخ الشرقي كما تم وضعه مع الشاي، ولقد استخدم مطبخ ما بين النهرين وبلاد الشام العصفر والسماق والزعتر والنعناع والبردقوش والريحان والكمون والأنسيون والكزبرة والبقدونس والشمر. (جريدة الوطن)