قطب أحمد/ناديا
لقد اشتهرت بلدة شانتيناغار في مقاطعة ناديا منذ قرون بأنها ملتقى المعتقدات والتقاليد والتواريخ، وعُرفت بأرض الشعراء والفلاسفة والقديسين. فهي تحمل إرث أدفايتا آشاريا، معلم تشيتانيا ديف، وتحتضن في الوقت نفسه الحضور الدائم لمعبد شيام تشاند ومسجد “توبخانا” العريق، اللذين يقفان جنبًا إلى جنب شاهديْن على روح التعايش والوئام.
وفي هذه البلدة الصغيرة، عاش الهندوس والمسلمون جيرانًا على مدى أجيال، ينسجون معًا نسيجًا من الوئام رقيقًا ومتينًا في آن، كخيوط الساري الشانتيفوري الشهير الذي ذاعت سمعته في أرجاء الهند وخارجها.
وقد كان ساري التانت الشانتيفوري على الدوام رمزًا لفخر البنغال الثقافي، إذ تشابكت خيوطه المتقنة عبر القرون مع حيوات لا تُحصى من النسّاجين، فحمل قصصهم وأحلامهم جيلاً بعد جيل.
ولا تزال أسواق البلدة النابضة بالحياة مثل "بانغار هات" و"غوش ماركت" مركزًا لهذا الإرث. ويبرز اليوم اسم يتردد على كل الألسنة وهو "جيه. إيم بازار"، الوجهة المزدهرة للساري التي تستقطب الزائرين من أماكن بعيدة تتجاوز حدود البنغال.
وفي قلب هذه القصة يقف جهانغير مالك، رجلٌ بسخائه ورؤيته لم يغيّر مجرى حياته وحده، بل غيّر أيضًا حياة آلاف من حوله.
ويبدو جهانغير لزبائنه تاجرًا ودودًا مهذبًا، يسهّل بابتسامته سير المعاملات، ولكن خلف الطاولات المكدسة بالحرير والأنوال اليدوية تكمن حقيقة أوسع؛ لقد أصبح جهانغير شريان حياة لمنظومة كاملة من العاملين.
ففي كل يوم سوق، يكسب حوالي ألف سائق عربة "الركشة" الكهربائية قوتهم اليومي من خلال نقل الزبائن من محطة قطار شانتيفور إلى "غوش ماركت". وما يلفت الانتباه أنّ جهانغير نفسه هو من يتحمل تكلفة هذه الرحلات، ليضمن للزوار تنقلًا مجانيًّا، وللسائقين دخلًا ثابتًا. وفي اقتصاد بلدة صغيرة، حيث يلازم عدم اليقين حياة الناس، تتحدث هذه المبادرة عن الرؤية والتعاطف في آن واحد.
وفي عام 2006م، حين كان جهانغير في مطلع العشرينيات من عمره، افتتح كشكًا متواضعًا لبيع الساري داخل "غوش ماركت". ووُلد في "بُلبُليتالا" بمقاطعة بردوان، وأكمل دراسته في مدرسة "سملون الثانوية"، ثم تابع تخصص التجارة في كلية "هاتغوبيندابور".
وبحكم شغفه الطبيعي بالنسيج، التحق بدورة قصيرة تديرها الحكومة في "راناغات"، وهناك انفتحت أمامه آفاق واسعة حول الإمكانات الهائلة لتجارة الساري في البنغال. واستجابة لجاذبية التراث العريق للنول اليدوي في شانتيفور، اختار هذه البلدة لتكون نقطة انطلاق رحلته.
وكانت البداية متواضعة، لكن جهد جهانغير وإخلاصه وطاقته التي لا تهدأ سرعان ما بدأت تؤتي ثمارها. وبحلول عام 2019م، أسس "J.M. بازار"، الذي توسّع ليشمل منصتين كبيرتين في الطابق الثاني من "غوش ماركت".
ولم يتجاوز الأربعين من عمره حين أسّس مشروعًا لم يكن مجرد نجاح عابر، بل تحوّل إلى علامة تجارية جمعت بين عراقة التراث وروح ريادة الأعمال الحديثة. غير أنّ ما يميّزه حقًا هو تمسّكه بجذوره؛ فلم تُغْرِه مظاهر الرفاهية بالانغلاق على ذاته، بل زادته عزيمة على النهوض بالآخرين من حوله.
ويُعَدّ متجره اليوم كنزًا زاخرًا بالمنسوجات، إذ مكّنته إدارته المباشرة لوحدات الإنتاج، سواء في شانتيفور أو خارج البنغال، من الحفاظ على أسعار ميسورة مع ضمان جودة عالية. وكان لهذا القرار أثرٌ بالغ في ترسيخ سمعته بين تجّار الجملة والمشترين الأفراد على حدّ سواء.
ولا تقتصر إسهامات جهانغير على الحرير فحسب؛ ففي وقتٍ كانت فيه ساري القطن اليدوي في شانتيفور توشك على الاندثار، أعاد إحياء الطلب عليها بدعمه للنسّاجين وضمان استمرار إنتاجها. وهكذا استعادت آلاف العائلات، التي كانت على حافة اليأس، مصدر رزقها ومعه كرامتها. وبالنسبة لجهانجير، فالأمر يتجاوز حدود التجارة ليغدو رسالة، فهو يردد دائمًا: "الثقافة البنغالية تبقى ناقصة من دون ساري التانت، سواء في دورغا بوجا أو في العيد أو في أي احتفال".
ودائرة سخائه لا تعرف حدودًا؛ ففي كل عام يقيم وليمة مجتمعية كبرى لعائلة "غوش ماركت" بأكملها، تضمّ الموظفين والمساعدين وسائقي الركشة من الهندوس والمسلمين على حدّ سواء، متكفّلًا بجميع النفقات بنفسه. وهذه الوليمة ليست مجرّد مبادرة خيرية، بل تجديد لروح شانتيفور التي ازدهرت بالوحدة والتآلف. وحتى في إطار تجارته الخاصة، تبدو الشمولية جزءًا أصيلًا منها؛ إذ يعمل فريقه، المؤلَّف من نحو خمسةٍ وعشرين عاملًا من أسر هندوسية ومسلمة، جنبًا إلى جنب في تناغم وانسجام طبيعي.
وتبقى عائلة جهانغير جزءًا لصيقًا من مسيرته؛ فأخوه الأصغر يدير مصنعًا واسعًا لمعالجة المنسوجات في "بُلبُليتالا"، يُنتج أقمشة قطنية متنوّعة كالقمصان والبنطلونات الضيّقة، ما يعزّز ارتباط العائلة العميق باقتصاد النسيج في البنغال. ومعًا، يجسّد الأخوان صورة جيلٍ جديد من روّاد الأعمال المنتمين إلى الأقلية المسلمة في البنغال، يجمعون بين طموح متطلّع ومسؤولية اجتماعية راسخة.
وفي صميم حكاية جهانغير مالك لا يكمُن النجاح وحده، بل تكمن تلك القدرة النادرة على أن يحلم بما يتجاوز ذاته. فهو يتخيّل أن تصل ساري النول اليدوي في شانتيفور إلى كل ركن من أركان العالم، حاملةً معها فخر البنغال وأرزاق نسّاجيها. وبأسلوبه الهادئ وتواضعه العميق، أثبت أن العظمة لا تُقاس بما يكدّسه المرء من ثروة، بل بما يتركه من أثر في حياة الآخرين على امتداد الطريق.