الثقافة الهندية بين الوحدة والتنوع

Story by  آواز دي وايس | Posted by  M Alam | Date 31-03-2024
دارغا في أجمير
دارغا في أجمير

 

أ.د. رضوان الرحمن: نيو دلهي

تشتهر الثقافة الهندية بتنوعاتها النادرة والمذهلة. والهند هي مسقط مهد لعدة ثقافات وأديان كبرى في العالم. وُلد فيها مؤسس البوذية غوتم بوذا، والديانة الجينية، والإله ماهافيرا، وظهرت فيها آلاف من الآلهة الهندوسية بمن فيهم الإله راما، ومبلغو الديانة المحلية في قرون مختلفة، ولجأ إليها المجوس وتوافد إليها النصارى، وأخيرًا دخل إليها الإسلام من خلال الحركات التجارية والتبليغ، وازدهرت الديانات والمعتقدات المحلية الأخرى في مختلف مناطق الهند. ولكن التباين الديني واختلاط العناصر من مختلف الديانات ساهما في بناء ثقافة نادرة تبني على التسامح والتعايش السلمي والاحترام لمعتقدات الآخرين.    

يعيش في الهند حوالى 18% من سكان العالم. ويتجاوز عدد سكانها المليار وأربع مئة مليون وتبلغ مساحتها أكثر من ثلاثة ملايين كيلومتر مربع، ويترعرع فيها أكثر من عشرين ديانة كبيرة وصغيرة في شتى أرجائها، والتي تشكل تنوعا عرقيا ودينيا وثقافيا لا مثيل له في دولة واحدة في العالم.

وتوجد في الهند قائمة طويلة من الأديان والمعتقدات الرئيسة التي ينتمي إليها الهنود، وتحت كل ديانة كبرى طوائف مختلفة لا يقل عددها مئات الآلاف. ولكن الهندوسية تشكل الديانة الرئيسة في الهند، ويقدر عدد أتباعها حوالى 80% من السكان. ويلي الإسلام في الترتيب الثاني بعد الهندوسية، ويبلغ عدد أتباعه نحو 14%. وأما عدد أتباع الديانة المسيحية فتتجاوز نسبتهم 2% من عدد السكان، ويليهم السيخ ثم البوذيون والجينيون والثقافات والمعتقدات الأخرى التي تتوزع على النسبة المتبقية وتنتشر في كافة أنحاء البلاد.

واستمر هذا التنوع على مر القرون إلى حد كبير بسبب وجود التقاليد والممارسات وأنظمة المعرفة العديدة التي حافظت عليها الطوائف والجماعات في جميع أنحاء البلاد. وتظهر أفضل التعبيرات عن هذه التقاليد والممارسات في اللغات والآداب والأكلات والمطابخ والملابس والمعارض والمهرجانات والفنون والحرف اليدوية والموسيقى والرقص والمسرحية والأساليب المعمارية وغيرها من الفنون. وعلاوة على ذلك، يُعتبر التنوع أيضًا من أهم العناصر التي تؤثر في الحياة اليومية لعامة الناس. وهذان الفرعان -الكلاسيكي والشعبي- يستمدان صلاحية بقائهما من العناصر الأولية للطبيعة الموجودة في مناطق معينة والاختلاط المستمر بين الشعوب وتقاليدهم عبر البلاد، مما أدى إلى ظهور ما نحن عليه اليوم. ونسميها باعتزاز "الثقافة الهندية".

وعلى الرغم من أن الثقافة الهندية تشمل التقاليد والممارسات ونظم المعرفة، غير أنها كيان ديناميكي ودائم التغيير. وهذه حقيقة واضحة أن المجتمعات تظل حية طالما أنها تقدر على التكيف مع الظروف المتغيرة وتعديل جوانب ثقافاتها وفقًا لذلك. فالثقافة الهندية ليست غريبة على مثل هذه التغييرات. وفي كل مرحلة من مراحل التطور التاريخي، لم تثر البلاد ثقافتها إلا من خلال تفاعل أكبر بين مختلف تيارات الناس، واستيعاب كل ما كان أفضل من الآخر لتحقيق أهداف التوليف والتجميع. وقد ظهرت في الهند اتجاهات مماثلة في مساعينا الثقافية في العصر الحديث، التي يمكن أن نراها في كل مكان. وفي كل مرحلة من مراحل التاريخ استقبل الهند نازحين ولاجئين من جميع أنحاء العالم. فهاجر إلى الهند في مختلف العصور عدد كبير من سكان شرق أفريقيا والتبت وأفغانستان وإيران وغيرها، واستوطنوا في مختلف أماكنها ما عدا سكان التبت الذين أنشأوا مراكزهم في ثلاث ولايات هندية وأشهرها مدينة دهارامشالا في ولاية هيماتشال براديش في شمال الهند. ومن المثير للاهتمام أن جميع المهاجرين يعيشون بسلام ويمارسون تقاليدهم وعاداتهم الدينية والأعمال التجارية بحرية. وجميعهم ما عدا النازحين إلى الهند بعد استقلال الهند يشاركون في الأنشطة السياسية مثل حق التصويت بحرية كاملة.

    

كانت الهند ولا تزال مسكن ثقافات وأديان شرقية وغربية ولكن الإسلام يحتل مكانة فريدة ومهمة بين الجماعات الدينية في البلاد. وانتشر الإسلام في الهند من مختلف الطرق ومن أهمها التيار الصوفي وعلى رأسه الخواجة معين الدين الجشتي الذي أسس زاويته في أجمير، ونشر من خلال أقواله وأفعاله الدين والتسامح والتعايش رغم اختلاف الأديان والمعتقدات في البلاد. ولمست أنشطته حياة أغلبية المواطنين من الديانات الهندية. ولذا يتوافد إلى ضريحه في مدينه أجمير آلاف من معتقدي أديان هندية وأغلبيتهم من الهندوس. كما يشارك جميع الهنود في جميع الأعياد والمهرجانات الدينية ويتبادلون التهاني والتبريكات والهدايا مع بعضهم البعض.   

ويضمن دستور الهند وطبيعة الهنود كلاهما هذه الوحدة المذهلة في التنوع. وتتناول مادة من 12 إلى 35 الواردة في الجزء الثالث من الدستور الحقوق الأساسية لجميع المواطنين. وهي: الحق في المساواة، بما في ذلك المساواة أمام القانون، وحظر التمييز على أساس الدين أو العرق أو الطبقة أو الجنس أو المولد، وتمنح الفرص المتساوية في التوظيف. كما تمنح المادة 25 من الدستور حرية التفكير وحرية الإقرار بالدين وممارسته ونشره لجميع المواطنين وفتح مراكزهم ومعاهدهم لإنجاز الحقوق المنصوصة فيه.

لا تزال الهند نموذجًا فريدًا للوحدة في التنوع والتعايش السلمي. وهذه هي القوة الداخلية للبلاد التي تقود نموها وازدهارها والتي تدفعها إلى أن تصبح "فِيكسيت بهارات" (الهند المتقدمة) بحلول عام 2047م.

ويمكن رؤية مثال حي على الوحدة في التنوع بمناسبة الانتخابات العامة أو انتخابات المجالس التشريعية في الولايات، حيث يتنافس في الانتخابات المرشحون من مختلف الأحزاب السياسية، ويمثِّلون العديد من الأيديولوجيات والثقافات والمناطق. وستشهد الهند الانتخابات العامة لعام 2024م. وسيغطي الاقتراع 543 مقعدًا لمجلس النواب (لوك سبها) بدءًا من 19 أبريل، وسيجري الاقتراع على سبع مراحل، وتمتد العملية الانتخابية حتى 1 يونيو. وسيدلي 968 مليون ناخب بأصواتهم في أكثر من مليون مركز اقتراع لانتخاب ممثلين في البرلمان الوطني الهندي. فسيحتفل الهنود في جميع أنحاء البلاد بغض النظر عن الثقافة والدين والعرق والنوع والطائفة، بعيد الديمقراطية وذلك من خلال الإدلاء بأصواتهم بأعداد كبيرة.

أ.د. رضوان الرحمن هو أستاذ بمركز الدراسات العربية والإفريقية ورئيسه سابقًا، جامعة جواهر لال نهرو، نيو دلهي