مجيب الرحمن*
في الخامس عشر من أغسطس من كل عام، يحتفل الهنود بعيد استقلالهم، حيث تتزين الشوارع بألوان العلم الثلاثة، وتتعالى الأصوات بالفخر بذكرى استقلال الأمة من الاستعمار البريطاني الغاشم بعد نضال طويل. وإن هذا اليوم ليس مجرد مناسبة احتفالية، بل إنما هو تذكير بتضحيات الملايين من أبناء الهند من مختلف الأديان والثقافات، الذين توحّدوا تحت راية الحرية. ومن بين فصول هذا النضال، يبرز دور الجيش الوطني الهندي (آزاد هند فوج) بقيادة سوبهاش تشاندرا بوس (1897-1945)، حيث أدّى المسلمون دورًا بارزًا ومؤثرًا في هذه الملحمة الوطنية.
الجيش الوطني الهندي: رؤية بوس للوحدة
في عام 1942م، أسس سوبهاش تشاندرا بوس الجيش الوطني الهندي، بالتعاون مع اليابان في جنوب شرق آسيا، بهدف تحرير الهند بالقوة العسكرية. وضمّ الجيش جنودًا هنودًا أسرى الحرب العالمية الثانية، إلى جانب متطوعين من الجاليات الهندية في سنغافورة ومالايا وبورما. وكان الجيش رمزًا للوحدة الوطنية، إذ جمع تحت لوائه الهندوس والمسلمين والسيخ والمسيحيين، متجاوزًا الحواجز الدينية والطائفية. وكان شعار "جاي هند" (النصر للهند) يعكس هذه الروح الجامعة، حيث لم يكن الانتماء الديني معيارًا، بل الإيمان بحرية الوطن.
وكان بوس يؤكد في خطاباته أن الجيش الوطني هو "جيش الهند كلها"، لا فرق فيه بين جندي مسلم أو هندوسي أو سيخي. وهذه الرؤية جعلت الجيش رمزًا للتضامن في زمن حاولت فيه السياسة البريطانية "فرق تسد" تمزيق النسيج الاجتماعي الهندي. وكان للمسلمين حضور قوي في هذا الجيش، سواء في الصفوف الأمامية أو في مواقع القيادة، مما جعل مشاركتهم دليلاً عمليًا على الوحدة الوطنية.
دور المسلمين في الجيش الوطني
شكّل المسلمون ما بين 30% إلى 40% من قوات الجيش الوطني الهندي، وهي نسبة كبيرة تعكس التزامهم بالقضية الوطنية. وبرز العديد من القادة المسلمين الذين تركوا بصماتهم في هذا النضال.
وعندما دوّت صيحات الحرية من إذاعات "آزاد هند" وجبهات القتال، كان بين صفوف جيش نيتاجي رجال مسلمون تركوا بصمات لا تُمحى في مسيرة الكفاح ضد الاستعمار البريطاني. ومنهم عابد حسن صفراني، الطالب الهندي في برلين، الذي صار سكرتير نيتاجي ومترجمه، ورافقه في رحلته الأسطورية على متن غواصة من ألمانيا إلى اليابان، وهو صاحب شعار "جاي هند" الخالد. وإلى جانبه برز العقيد حبيب الرحمن، المؤسس المشارك للجيش الهندي الوطني، ووزيرًا في حكومة "آزاد هند"، ورفيق نيتاجي في رحلته الجوية الأخيرة.
وأما اللواء محمد زمان خان كياني، فقد تولى قيادة الفرقة الأولى التي ضمّت أفواج نهرو وآزاد وغاندي على جبهة بورما، فيما تولى العقيد إحسان قادر إدارة إذاعة "آزاد هند" ورئاسة مجلس الوئام الطائفي لتعزيز وحدة الهندوس والمسلمين داخل الجيش. وأسهم العقيد عنايت الله حسن في بث الدراما الوطنية عبر الأثير، ثم أشرف على تدريب النساء والأطفال على السلاح.
وقاد اللواء شاه نواز خان الهجمات في أراكان وناجالاند، وأقنع أسرى الحرب من الجنود الهنود بالانضمام إلى الجيش الوطني. ورفع العقيد شوكت علي ملك لأول مرة العلم الوطني على أرض محررة في مويرانغ بمانيبور عام 1944م. وكان العقيد محبوب أحمد ضابط الاتصال ومستشارًا عسكريًا في معارك أراكان وإيمفال.
ومن خارج الميدان، أدّى كريم غني، الصحفي التاميلي في بورما، دور المستشار في حكومة "آزاد هند"، فيما قدّم الثري الغوجراتي عبد الحبيب يوسف مرفاني كل ثروته —مجوهرات وعقارات ونقود— دعمًا للجيش، فنال وسام "تمغه- -سيفك- -هند".
وقد مُنح عشرات الجنود المسلمين أرفع أوسمة الشجاعة، مثل "تمغه سردار جنج" و"تمغه فِير هند" و"تمغه بهـادوري"، و"تمغه شاترو ناس"، و"سند بهادوري"، تخليدًا لبطولاتهم في جبهات القتال.
ولقد شكّل هؤلاء الأبطال المسلمون، ومعهم إخوتهم من مختلف الأديان، لوحات مجيدة من التضحية والوحدة الوطنية في ملحمة تحرير الهند.
معارك الجيش الوطني وتضحياته
خاض الجيش الوطني الهندي معارك ضارية في 1944م و1945م، خاصة في إيمفال وكوهيمة على الحدود البورمية-الهندية. ورغم الظروف القاسية، من نقص الإمدادات والتحديات المناخية في الغابات والجبال، أظهر المقاتلون، بمن فيهم المسلمون، شجاعة استثنائية. وسقط مئات الشهداء في هذه المعارك، ولكنها أثبتت للعالم أن الهنود مستعدون لحمل السلاح من أجل الحرية.
اقرأ أيضًا: دور المسلمين الهنود في كفاح تحرير الهند
وبعد الحرب، حوكم العديد من جنود الجيش الوطني في محاكمات القلعة الحمراء بدلهي عام 1946م، بمن فيهم قادة مسلمون مثل شاهنواز خان. وأثارت هذه المحاكمات موجة تعاطف شعبي عارمة، حيث رأى الهنود في هؤلاء الجنود أبطالاً وليسوا خونة. وهذا التعاطف ساهم في تسريع مسار الاستقلال، إذ أدرك البريطانيون أن سيطرتهم باتت مستحيلة أمام هذا الزخم الوطني الهائل.
إرث الوحدة والتضحية
كان دور المسلمين في الجيش الوطني الهندي، تحت قيادة المناضل العظيم سوبهاش تشاندرا بوس، شاهدًا حيًا على أن النضال من أجل تحرير الهند من الاستعمار البريطاني كان جهدًا وطنيًا جامعًا، تجاوز كل الحواجز الدينية والطائفية. وفي زمن سعى فيه المستعمرون إلى تمزيق نسيج الأمة بزرع بذور الفرقة والانقسام، وقف المسلمون جنبًا إلى جنب مع إخوانهم من الهندوس والسيخ والمسيحيين وغيرهم، مؤكدين أن الهوية الوطنية المشتركة هي الرابط الأقوى الذي يجمع الجميع تحت راية الحرية. ولقد سالت دماؤهم معًا في ميادين القتال، من سنغافورة إلى بورما، ومن معارك إيمفال إلى كوهيما، في تضحيات جسام جسّدت روح الوحدة والإصرار على انتزاع الحرية. وهذه التضحيات لم تكن مجرد بطولات عسكرية، بل كانت تأكيدًا صلبًا على أن الهدف المشترك –تحرير الوطن– كان أرفع من أي اختلافات دينية أو ثقافية، وأن الإيمان بالحرية هو القوة التي جمعت القلوب ووحّدت الصفوف.
اقرأ أيضًا: الجنديات المسلمات في الجيش الهندي الوطني
وفي كل عام، عندما نرفع علم الهند ثلاثي الألوان في عيد الاستقلال، فإننا لا نحتفل فقط بانتصار الحرية، بل نكرم ذكرى أولئك الأبطال الذين قدّموا أرواحهم لتحقيق هذا الحلم، ومن بينهم المسلمون الذين قاتلوا بشجاعة وإقدام تحت راية الجيش الوطني الهندي بقيادة بوس. وإن مشاركتهم الباسلة في هذا النضال تظل رمزًا خالدًا لقوة الهند المستمدة من تنوعها الفريد وتضامنها الراسخ. ولم يقاتلوا من أجل دين أو طائفة، بل من أجل وطن يحتضن الجميع بغض النظر عن معتقداتهم أو انتماءاتهم، وطن يقوم على العدالة والمساواة والكرامة. فلنحيي في هذا اليوم ذكرى هؤلاء الأبطال الذين خلّدتهم تضحياتهم في سجل الأمة، ولنجدد العهد على حماية هذه الوحدة التي شكّلت أساس استقلالنا. ولنعمل على إحياء أسمائهم، الذين تستحق بطولاتهم أن تبقى محفورة في ذاكرة الأجيال، كمنارات تذكّرنا بأن الهند قوية بوحدتها، عزيزة بتنوعها، وخالدة بتضحيات أبنائها.
*رئيس مركز الدراسات العربية والإفريقية سابقًا بجامعة جواهر لال نهرو، نيودلهي.