في ذكرى ميلاد السير سيد أحمد خان

17-10-2025  آخر تحديث   | 17-10-2025 نشر في   |  آواز دي وايس      بواسطة | مجيب الرحمن 
في ذكرى ميلاد السير سيد أحمد خان
في ذكرى ميلاد السير سيد أحمد خان

 


 مجيب الرحمن*

مع شروق الشمس فوق مآذن جامعة عليكراه الإسلامية التاريخية في 17 أكتوبر، تصدح الأرجاء بأنغام ترنيمة الجامعة الرنانة: "يه ميرا شمن هاي، ميرا شمن..." (هذه حديقتي، هذه حديقتي). هذا النشيد، وهو قصيدة مؤثرة تشيد برؤية السير سيد أحمد خان، تتردد صداها ليس فقط في عليكراه، بل في جميع أنحاء العالم – من فروع رابطة الخريجين النشطة في دبي ونيويورك إلى التجمعات الهادئة في لكناؤ ولاهور. ويصادف اليوم الذكرى السنوية الـ208 لميلاد السير سيد أحمد خان (1817-1898م)، المصلح الأسطوري صاحب الرؤية الذي كانت حياته عبارة عن دعوة جريئة للتنوير الإسلامي في الهند الاستعمارية.

 وُلد السير سيد في عائلة مغولية أرستقراطية في دلهي في 17 أكتوبر 1817م، وترعرع في ظروف محفوفة بالمخاطر من كل جهة، في ظل تراجع الثقافة الإسلامية وسطوة الاستعمار البريطاني الوشيكة في الهند، ولكنه استطاع أن يخلف إرثًا تجاوز دوره كموظف مدني في الحكومة البريطانية، وفقيه ومؤرخ ومفسر؛ فقد كان مهندس نهضة إسلامية حديثة، حاضًّا مجتمعه على تبني التعليم الغربي دون التخلي عن قيمهم الإسلامية. وفي عصر كان فيه المسلمون، الذين اكتووا بنار ثورة 1857م، ينظرون إلى الحكم البريطاني بعين الريبة ويتشبثون بالمناهج التقليدية المتقادمة، أعلن السير سيد بجرأة: "المسلم الحق يحمل القرآن في يده اليمنى، وكتاب العلم في يده اليسرى". ولم تكن مهمته التعليمية مجرد عملية إصلاح؛ بل كانت حركة – حملة قوية لانتشال المسلمين من قعر الركود الفكري، والجمود الثقافي، ودفعهم نحو العالم الحديث.

وانطلقت رحلة السير سيد على رماد ثورة 1857م، التي تركت الثورة المسلمين مهزومين سياسيًا ومعوقين اقتصاديًا. وبصفته خادمًا مخلصًا لشركة الهند الشرقية، ألّف كتاب "أسباب الثورة الهندية" (1858م)، ودافع فيه عن المسلمين ضد اللوم الشامل الواقع عليهم للثورة، بينما دعا إلى التحالف مع الحكم البريطاني كمسار عملي للنهضة. ولقد أدرك أن الرجعية والانعزالية تدفع المسلمين نحو التخلف، وحذّر قائلًا: "إن تحجر نظرتهم الرجعية يهدد مستقبل المسلمين". فقام بتأسيس الجمعية العلمية في غازيبور عام 1864م لترجمة النصوص العلمية الغربية إلى الأردية، ثم أنشأ مدارس في مراد آباد (1859) وغازيبور (1863)، ووضع في مقرراتها موادًا عصرية: اللغة الإنجليزية والرياضيات والعلوم والدراسات الإسلامية. وفي عام 1870م، أسس مجلة "تهذيب الأخلاق"، وهي مجلة أثارت جدلًا حول العقلانية وحقوق المرأة والإصلاح الاجتماعي، مما جرّ عليه فتاوى من قبل بعض العلماء المحافظين الذين وصفوه بالزنديق. ولم يثنِ ذلك السير سيد عن عزمه، فجاب إنجلترا بين عامي 1869م و1870م، مستلهمًا من جامعتي أكسفورد وكامبريدج فكرة إنشاء جامعة إسلامية تؤسس للاجتهاد بدلًا من التقليد الأعمى. وكانت عقيدته بسيطة لكن ثورية: إن التعليم مفتاح الكرامة، واللغة الأردية لغة مشتركة للهوية الإسلامية الموحدة، وإن المسلمين والهندوس هما عينان للهند، وبهما تحقق الهند وحدتها وانسجامها.

وتبلورت هذه الرؤية في إنشاء الكلية المحمدية الأنجلو-شرقية (MAO) في 24 مايو 1875م في عليكراه – وهي مؤسسة ناشئة على غرار الجامعات البريطانية المرموقة، لكنها متجذرة في القيم الإسلامية بتمويل سخي من فاعلي خير مسلمين مثل نظام حيدر آباد وراجا محمود آباد، قدمت منهجًا دراسيًا يجمع بين الأدب الإنجليزي والعلوم الطبيعية والدراسات الإسلامية. واتسع حلم السير سيد من خلال مؤتمر عليكراه التعليمي الإسلامي لعموم الهند (1886م)، وهو منتدى شمل عموم الهند وأشعل حركة لإنشاء مدارس يديرها المسلمون في جميع أنحاء البلاد. وبحلول عام 1920م، تطورت الكلية إلى جامعة عليكراه الإسلامية بموجب قانون صادر عن المجلس التشريعي الهندي، لتصبح أول جامعة إسلامية في الهند ومنارة لتعليم الأقليات.

وتقع جامعة عليكراه الإسلامية اليوم على مساحة 467 هكتارًا، وتقدم أكثر من 300 دورة دراسية في الهندسة والتكنولوجيا والطب والقانون والعلوم الإنسانية، والآداب واللغات المختلفة وما إلى ذلك، وتجذب طلابًا من 40 دولة. ولا تزال الجامعة تحتل مراتب متقدمة في التصنيف الوطني للجامعات الهندية، ولم تكن الجامعة صرحًا معزولًا في يوم من الأيام؛ بل كانت نواة لحركة تعليمية سميت "حركة عليكراه"، وهي حركة اجتماعية تعليمية قوية أيقظت المسلمين من سباتهم العميق وغرست فيهم الوعي السياسي. ولقد كان دور الجامعة في تعليم الفتيات والفتيان المسلمين ثوريًا، مجسدًا روح السير سيد الشاملة. كما كانت مثالاً للتعددية والتنوع ونموذجًا للعالمية، وكما وصف رئيس الوزراء ناريندرا مودي الجامعةَ - في خطابه الرئاسي أثناء الاحتفالات المئوية للجامعة في 22 ديسمبر 2020م عبر مشاركة فيديوية بـ"الهند المصغرة" وتحدث عن أهمية الوحدة والتعددية والواجب الوطني وخطط التنمية الحكومية التي تصل إلى الجميع دون تمييز. وما من شك في أن الجامعة قد صنعت حياة ملايين الأشخاص دون تمييز على أساس الدين أو اللغة أو العرق أو الجنسية، وألهمتهم للعمل للمجتمع والأمة. وبالتالي قدمت ولا تزال تقدم خدمة وطنية عظيمة. وبالنسبة إلى الشباب المسلم، الذي كان محصورًا في المدارس الدينية، فتحت الجامعة أبوابها أمام التعليم العصري والمواطنة العالمية، مما وفّر لهم فرصًا أفضل للتعليم. وإن التعليم حقًا هو المُعادل الأعظم.

ومع ذلك، فبينما نقيم احتفالات صاخبة –من خلال الندوات والمهرجانات الثقافية، وحفلات عشاء الخريجين حول العالم– تلوح في الأفق سخرية عارمة. يروي خريجو الجامعة حياة السير سيد ببلاغة، لكنهم نادرًا ما يواجهون حقيقة كبيرة: فقد أنجب هذا المعهد نجومًا من مهندسين وأطباء وعلماء وباحثين لا يمكن إحصاؤهم، ولكنه لم يوجِد خليفة للسير سيد نفسه يحمل حلمه بنفس القوة وينذر حياته لتحقيق ذلك الحلم.  ولقد أنجبت هذه الدار عظماء التاريخ الحديث: من الدكتور ذاكر حسين، ثالث رئيس للهند وخبير تربوي وخان عبد الغفار خان والشيخ محمد عبد الله، وحسرت موهاني، إلى المؤرخ عرفان حبيب؛ ومن أيقونات بوليوود مثل نصير الدين شاه وجاويد أختر، وأنوبهاف سينها المخرج السينمائي، وكيفي أعظمي، وخواجه أحمد عباس، وكيه آصف (مخرج ومنتج فيلم "مغل أعظم") إلى قطب الأعمال مالك غلام محمد (المؤسس المشارك لشركة ماهيندرا آند ماهيندرا) والميجور دهيان تشاند -أشهر لاعب للهوكي في الهند– تبهر قائمة خريجي جامعة عليكراه أنظار العالم في مجالات متنوعة: من الفيزياء (طلعت أحمد) وعلم المحيطات (ظهور قاسم) وعلم الجغرافيا (ماجد حسين)، إلى الأدب (سعادت حسن منتو). وفي الطب، ساهم علماء مثل حكيم سيد ظل الرحمن في تطوير الطب اليوناني؛ هؤلاء "العباقرة في الحقول"، كما وصفهم السير سيد، قد رفعوا شأن الجامعة. ولكن أين ذلك الصوت الملهم الذي أيقظ المسلمين من غفلتهم التاريخية؟ أين أصداء تلك الحركة القوية التي خاضها السير سيد أحمد خان؟ لم تكن شخصية السير سيد مجرد مؤسسة خرّجت الآلاف، بل كانت حركة نابضة بالحياة تجسّدت في تأسيس الجامعة، التي كانت ثمرة تلك الرؤية. لكن المؤسف أن المسلمين لم يتمكنوا من مواصلة دفع هذه الحركة إلى الأمام، فتحولت الجامعة مع مرور الزمن إلى مؤسسة تعليمية تُخرّج المتخصصين، لا القادة الملهمين. وتلك هي المعضلة التي تواجه قرابة 200 مليون مسلم في الهند اليوم: غياب شخصية بحجم السير سيد تحمِل الحلم وتعيد إحياء الروح.

ويعيش المسلمون في الهند اليوم –الذين يشكّلون نحو 14% من السكان– في أوضاع يُرثى لها. وإن الحل لا يكمن إلا في اتباع مثُل السير سيد أحمد خان: البحث العقلاني، والروح العلمية، والإصلاح المجتمعي، والعزوف عن التناحر والانقسام المذهبي، مع التركيز الكلي على التعليم الجيد. ويجب على المسلمين إعطاء الأولوية للتعليم الحديث –بزيادة المنح الدراسية، وتحديث المدارس الدينية، وتأسيس المدارس والكليات العصرية الجيدة، ورفع مستوى التحاق الإناث بالتعليم العصري– مع تعزيز التحالفات بين الأديان. كما ينبغي للحكومة تطبيق توصيات لجنة ساشار: لجنة تكافؤ الفرص ومؤشر التنوع لتتبع التقدم. ويجب على جامعة عليكراه الإسلامية، بصفتها وريثة الحركة، احتضان حركة "السير سيد" يمكن لشبكات الخريجين، القوية في 50 دولة، تمويل كليات المجتمع في المناطق المتخلفة. والأهم من ذلك كله، استعادة روح عليكراه: ليس فقط للنجاح المهني، بل للقيادة الملهمة أيضًا.

وهنا تكمن المأساة. يطلع فجر السابع عشر من أكتوبر وسط الاحتفالات – من ندوات حاشدة في جامعة عليكراه الإسلامية، إلى حفلات الترانيم والعشاء الفاخر التي تقيمها روابط الخريجين من قطر إلى الإمارات. ويشيد الخريجون بعبقرية السير سيد، ويتبادلون ذكريات الحنين على مائدة شاي لا تنتهي، ويتعهدون بنهضة غامضة بلا ملامح. لكن أحدًا لا ينهض بالحركة العلمية والفكرية التي أطلقها السير سيد.

ويبقى السؤال معلقًا بلا إجابة: لماذا لم تُنجب جامعة عليكراه –مهد الرؤساء والشعراء والمفكرين– مصلحًا آخر بحجم السير سيد، يواجه أزمات الحاضر بشجاعة مماثلة؟

وفي خضم هذا الزخم الاحتفالي، تضيع جذوة الحملة التي أشعلها السير سيد – حملة ضد الجهل، ومن أجل تعليم حديث عصري راقٍ، يعيد للمجتمع نهضته وكرامته.

اقرأ أيضًا: مستشار الأمن القومي دوفال يشارك في الاجتماع الثالث لأمناء مجالس الأمن بين الهند ودول آسيا الوسطى في بيشكيك

وفي الذكرى الـ208 لميلاد السير سيد، لنتجاوز مظاهر الاحتفال إلى لحظة صادقة من المحاسبة: هل نسير على دربه كما أراد، في نشر التعليم بين المسلمين، حتى لا يبقى فيهم أمي أو محروم من المعرفة؟ هل حافظنا على روح السير سيد حيّة وفاعلة، أم حصرناها داخل جدران الجامعة السميكة، مجرّدة من رسالتها النهضوية؟

*أستاذ بمركز الدراسات العربية والإفريقية ورئيسه سابقًا، جامعة جواهر لال نهرو، نيودلهي.

قصص مقترحة