مدينة لكناؤ: ملتقى الفن والأدب والتراث الإسلامي في شمال الهند

24-10-2025  آخر تحديث   | 24-10-2025 نشر في   |  آواز دي وايس      بواسطة | آواز دي وايس 
بارا إمامبارا
بارا إمامبارا

 


 عائشة شهناز فاطمة*

في قلب الهند، حيث يمتزج عبق التاريخ بنسائم الثقافة، تتجلّى لكناؤ كعروسٍ شرقيةٍ مزدانةٍ بتراثها الإسلامي الزاهر وأدبها الرفيع. مدينة لا تشتهر بجمال عمارتها وطيبة أهلها فحسب، بل بروحها التي تجمع بين الأصالة والابتكار، وبين ماضٍ عريقٍ وحاضرٍ أنيق. وهنا، في أزقة لكناؤ، يتردّد صدى الشعر واللغة، وتفوح أنفاس الملوك والأدباء الذين صاغوا ملامحها عبر القرون. ولقد كانت لكناؤ على مدى العصور ملتقى العلماء والشعراء والنبلاء، ومركزًا للتأثير الفكري في شمال الهند. واليوم، رغم صخب الحداثة، ما زالت تحتفظ بروحها العريقة التي أكسبتها لقب "مدينة الأدب والذوق الرفيع".

وحكمت مدينة لكناؤ سلالاتٌ وإمبراطورياتٌ متعاقبة، من بينها المغول ونواب أوده والبريطانيون، وقد ترك كلٌّ منهم بصمته المميزة على ملامح المدينة وأسهم في تشكيل ثقافتها الغنية. غير أن نجمها سطع في عهد نواب أوده خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، حين ازدهرت كحاضرةٍ للفن والثقافة. كان النواب رعاةً للفنون والآداب، شجعوا الموسيقى والرقص والشعر، واحتضنوا المبدعين من مختلف أنحاء الهند. كما اشتهروا بحبهم للطعام، فابتكروا مطبخًا فريدًا يمزج بين النكهات المغولية والأودية، ليُعرف لاحقًا باسم المطبخ الأوَدي (Awadhi cuisine). وهكذا أصبحت لكناؤ مركزًا نابضًا للثقافة الإسلامية والهندية، وشهدت قصورها وحدائقها وشوارعها عصرًا ذهبيًا امتزجت فيه السياسة بالفن، والعلم بالأدب، والتصوف بالموسيقى.

مدينة الأدب والثقافة

تتجذّر لكناؤ في تقاليدٍ عريقةٍ ضاربةٍ في عمق التاريخ، ومع ذلك فإنها تتكيّف برشاقةٍ مع الحاضر، فتجسّد مفارقةً آسرة تجمع بين الأصالة والحداثة. وتتردد أصداء بلاط المغول في رقصة الكاثاك الرقيقة، وتفوح عبير العصور الغابرة من قارورة عطر تُباع في كشك سوق قديم. وليست لكناؤ مجرد مدينةٍ على الخريطة، بل إحساسٌ وإيقاعٌ وقصيدةٌ رقيقة تنبض بالحياة في قلوب أهلها. وإنها راقيةٌ، متعددة الطبقات، غنيةٌ بالحكايات التي تتناقلها الأجيال بهدوء وحنين. ويُعرف أهلها بـ كرم ضيافتهم ودماثة أخلاقهم وما يُسمّى بـ "التهذيب"، تلك السمة المميزة المتأصلة فيهم، والتي تنعكس بوضوح في أسلوب حديثهم ولغتهم الراقية.

وفي لكناؤ، تُشبه المحادثة فنًّا راقيًا يُمارَس بذوقٍ ووعي. وتُختار الكلمات بعنايةٍ وتُنطق بدفءٍ، وغالبًا ما تنساب بنغمةٍ رقيقةٍ تُلامس القلب. فاللغة هنا ليست مجرد مفرداتٍ أو قواعد، بل هي طريقةٌ في الحديث، وأسلوبٌ في الإصغاء، وفنٌّ في جعل الآخر يشعر بأنه مرئيٌّ ومُقدَّر. وتُعد العبارة الكلاسيكية "بهلي آب" أي "أنت أولًا" مثالًا بليغًا على هذا التهذيب العميق، إذ تعكس منظومة قيمٍ متجذّرة تُعلي من شأن التواضع واللطف والكياسة.

وتحت الرعاية الملكية، بلغت فنون الغزل والقوالي والكاثاك والثمري والشعر الشعبي ذروتها، فغدت لكناؤ منارةً للفن والوجدان. وبصفتها مركزًا رائدًا للتعليم الإسلامي والأدب الرفيع، شهدت المدينة نشأة الشعر اللكنوي على يد شعراء مرموقين مثل أنيس ودبير وإمام بخش وشوق وجوش وغيرهم، الذين صاغوا وجدان اللغة الأردية بإبداعهم.
وقد اكتسبت الأردية في لكناؤ نغمتها المميزة وإيقاعها الساحر، واتسمت بجمالٍ صوتيٍّ محيّرٍ وأداءٍ لغويٍّ سلسٍ يفيض بالذوق والرهافة.

المأكولات الشهيرة

لا يقتصر ذوق لكناؤ على فنون الكلام فحسب، بل يمتد إلى مطبخها النوابي العريق، الذي يُعد من أغنى المطابخ الهندية وأكثرها تميزًا، والمستوحى من التراث المغولي الأصيل. ويمتزج في هذا المطبخ عبق التوابل والنكهات من آسيا الوسطى وبلاد فارس، ليشكل جنةً لعشّاق المذاق الشرقي. ومن أشهر أطباقه؛ الكباب اللكنوي بأنواعه المختلفة مثل جلاوتي كباب؛ وسيخ كباب؛ وكاكوري كباب، وهي أطباق تُحضَّر من اللحم المفروم المتبّل بتوابل خاصة، ثم تُشوى أو تُطهى على الفحم، لتمنح طعمًا شهيًّا ولذيذًا للغاية. كما يُعد أودهي برياني (Awadhi Biryani) طبقًا شهيرًا آخر في لكناؤ، يُطهى بمزيجٍ من التوابل العطرة واللحوم والخضروات في تناغمٍ يعبّر عن فن الطبخ اللكنوي الراقي. وهناك وطبق آخر شهير جدًا في لكناؤ هو "نيهارى"، وهو يعد من حساء لحم الضأن الطري في مرق غني ومليئ بالنكهات مطبوخ طوال الليل من بين التوابل الخاصة، و"ماتان قورما" (قورمة بلحم الضأن)، أيضًا من أشهر الأطباق. وكما تشتهر المدينة بحلوياتها مثل "شيرمال" وهو نوع من البراتا الحلوة (الخبز الحلو)، و"ربرى"، و"كولفي" و"شاهي تكره" والحلوى الشهيرة "ماخان مالاي"، وهي حلوى دسمية شهية تُصنع وتُباع خلال فصل الشتاء.

التراث.. لم يتركنا أبدا

تشتهر لكناؤ بفنونها التقليدية وحِرفها اليدوية العريقة، التي تُجسِّد ذوقها الرفيع وتاريخها الفني العميق، ومن أبرزها تطريز "تشيكانكاري" (Chikankari) و"زردوزي"  و"جالي" وصناعة الفخار. ويُعد تطريز تشيكانكاري من أشهر أنواع التطريز التقليدي في الهند، ويعتمد على خيوط دقيقة تُنفّذ يدويًا بأسلوبٍ متقنٍ ومعقّد على أقمشةٍ مثل القطن والحرير والموسلين. ويتميّز بأنماطه الزهرية الرقيقة التي تُضفي على الأقمشة لمسةً فنيةً راقية، ويُستخدم في تصميم الملابس التقليدية مثل الساري والكورتا (القميص الطويل) والخمار.

وأما تطريز الزردوزي، فهو فنٌّ يستخدم الخيوط المعدنية والخرز والترتر الذهبي والفضي لإنشاء تصاميم زخرفية معقدة على أقمشةٍ مثل الحرير والمخمل والشيفون، وغالبًا ما يُستخدم في تصميم فساتين الزفاف الفاخرة والملابس الاحتفالية.

وتطريز "جالي" هو نوع من التطريز الشبكي، يتضمن استخدام تصاميم معقدة لإنشاء نمط مثقوب في الخشب أو الحجر. ويُشاهد غالبًا في المباني مثل القصور والمقابر، وهو سمة فريدة من سمات التراث المعماري في لكناؤ. وكذلك الفخار فنٌّ وحرفةٌ فنيةٌ مشهورةٌ أخرى في لكناؤ. ويُصنع على يد حرفيين محليين، وغالبًا ما يُزيّن بتصاميمٍ وزخارف بديعة، ويُستخدم في صنع أشياء مثل المزهريات والأوعية والأطباق.

الجمال المعماري لمدينة لكناؤ

تحتفظ لكناؤ بطرازٍ معماريٍّ فريدٍ يمزج بين الطرازين الإسلامي والمغولي. ومن أبرز معالمها بوابة رومي بقبتها العالية وأقواسها المزخرفة، وكأنها تُعلن الدخول إلى مدينةٍ من عالمٍ آخر. وفي وسط المدينة يقف مبنى "بارا إمامبارا" (الإمامباره الكبير)، أحد أروع نماذج العمارة الإسلامية، ويتميّز بأنه بُني من دون استخدام أي معدنٍ أو خشب، ليكون شاهدًا على عبقرية البنّائين المسلمين في الهند. وأما "تشوتا إمامبارا" (الإمامباره الصغير)، فهو من روائع العمارة في لكناؤ، يجسّد فخامة العصر النوابي وروعة فنونه. كما تزدان المدينة بمعالم أخرى مثل "قصور شاهي" و"بيجوم كوثي"، حيث تمتزج الزهور بعبير التاريخ، ويتجلّى الجمال في أدق تفاصيل الأحجار والنقوش. ولا يمكن إغفال "كلاك تاور" (برج الساعة)، تلك التحفة المعمارية والمعلم البارز في المدينة، إذ يُعدّ بناؤه المعقّد وتصميمه الفريد دليلًا على براعة الحرفيين في ذلك العصر، وهو مزيج رائع بين الطرازين المغولي والفيكتوري. ويبرز من بين معالمها "ذا ريزيدنسي"، المعروف باسم "المقر البريطاني"، وهو مجمع شاسع يقع في قلب المدينة. وبُني في أواخر القرن الثامن عشر، وكان في الأصل مقرًا للمقيم العام البريطاني الذي مثّل شركة الهند الشرقية في بلاط نواب أوده. ولم يكن المجمع مجرد منطقة سكنية فحسب، بل كان مركزًا سياسيًا وإداريًا مهمًا.

ومن المعالم الحديثة في المدينة "يو بي دارشن بارك"، وهي أول حديقة في لكناؤ تُحوِّل النفايات إلى عجائب فنية. وتضم الحديقة نماذج مصغّرة لستة عشر معلمًا أثريًا شهيرًا من ولاية أوترا براديش، مثل حصن جانسي، ومعبد بانكي بيهاري، والتاج محل، ومعبد كاشي فيشواناث في فاراناسي، وغيرها. وقد شُيّدت هذه النماذج باستخدام مواد مهملة مثل خردة الحديد، وبقايا السيارات رباعية الدفع، والستائر الدوّارة، والخزائن الصدئة، وهياكل الدراجات، ونفايات الحديد المنزلية وغيرها.

وتأتي في هذه القائمة "جانيشوار ميشرا بارك" (حديقة جانيشوار ميشرا)، وهي أكبر حديقة في آسيا، تُعدّ ملاذًا لعشّاق الطبيعة ووجهةً مفضلةً للسكان المحليين والزوار، لما تتميز به من أجواءٍ هادئة ومساحاتٍ خضراءَ شاسعة. كما تُعدّ "أمبيدكار بارك" (حديقة أمبيدكار) من أجمل حدائق لكناؤ، إذ تمتاز بتصميمها المعماري الفريد ومناظرها الطبيعية الساحرة، وتضم العديد من التماثيل والمنحوتات والنباتات والأزهار المتنوعة، مما يجعلها مقصدًا رائعًا للزيارة والاسترخاء. وأما "مارين درايف"، المعروف أيضًا باسم واجهة نهر غومتي، فهو ممشى خلاب يمتد على ضفاف النهر، صُمم ليكون مساحةً ترفيهيةً حضريةً تجذب الزوار على مدار العام. وتقام فيه فعالياتٌ ثقافيةٌ على مدرجاتٍ مخصصةٍ لذلك، كما تتلألأ نوافيره المضيئة بألوانٍ زاهيةٍ ليلًا. وعند التجوّل على طول "مارين درايف"، تنعكس أضواء المدينة على صفحة مياه النهر المتموجة، في مشهدٍ يأسر الأبصار بسحره وجماله.

وعلى الرغم من تغيّر الأزمنة، لم تفقد مدينة لكناؤ بريقها العريق. فهي اليوم مدينة عصرية نابضة بالحياة، تزخر بالجامعات والمكتبات والمراكز الثقافية، وتستضيف مهرجاناتٍ أدبيةً وموسيقيةً تُجسّد روحها التراثية وماضيها المجيد.

* أستاذ مساعد (المؤقت) بجامعة خواجة معين الدين الجشتي للغات، لكناؤ، أترابراديش.

قصص مقترحة