يوسف أبو لوز
حوّل نجيب محفوظ الحارة المصرية القاهرية تحديدًا إلى مكان شعبي في العالم، أو حوّله إلى وسط مكاني ثقافي مُتداول، أي مكرر في الذاكرة، أو أنه علامة أساسية من علامات المدينة، فيقال "وسط البلد"، أو "مركز المدينة" أو قلبها، أي نبضها الشعبي الكثيف بالحركة، والأصوات، والألوان، والعلاقات.
في سوريا، لم يكن هناك كاتب حارة بالطريقة المحفوظية، إن جازت العبارة، ولكن وجدت دراما تلفزيونية سورية حوّلت الغوطة في ريف دمشق إلى مكان آخر في العالم يشبه حارة محفوظ.
قاومت الغوطة برجالها ونسائها وشبابها وفتيانها الاستعمار الفرنسي، وأخرجته ذليلاً مكسورًا من الشام، وأعطت الغوطة الماء والظل والخضرة والفاكهة لأهل الهلال الخصيب كلّه، وترمز هذه البقعة السورية الشامية الصغيرة إلى العطاء والوفرة والجمال، والغوطة كما هي في التلفزيون هي أيضًا في الجغرافيا: رجال مسكونون بالبطولة دائمًا. وأبطال شديدو البأس والملامح، لكن تكمن في قلوبهم إنسانية خضراء، سهلة، وبسيطة، تمامًا مثل بساطة التراب الذي يمشون عليه، ويعتبرونه، أمّهم الأرض.
رمزية الغوطة الدمشقية السورية رمزية ثقافية أيضًا، فمن هذه البقعة الخضراء المائية الصغيرة، وُجِدَ في الهوية الثقافية الشامية شعراء، ورسّامون، وروائيون، ومغنّون، وموسيقيون، ومثقفون أحرار مستقلّون.
لا أدري إن كان محمد الماغوط من الغوطة أم ليس منها، ولعلّه ليس منها بالمعنى الميلادي أو المكاني، لكن ما من قصيدة له إلّا وفي قلبها شجرة، يجري تحتها نهر بردى بكل شبابه آنذاك، و"آنذاك" هذه تعني أن النهر الذي روى الناس والأشجار والطيور جرى تجفيفه، وتصحيره، وتحويله إلى مرثية.
اقرأ أيضًا: مكتبة ومتحف رضا برامفور – أكبر مكتبة للمخطوطات في الهند
في التحوّل السياسي الشعبي الذي شهدته سوريا قبل سنوات، وأدّى بالتدريج والصبر ووفرة البطولة إلى انقلاع نظام بشار الأسد إلى الخيبة والذل، تحوّلت الغوطة إلى رمز وإلهام وبطولة.
ما من سوري، على أي حال، وفي كل حال، إلّا ويعرف جيدًا المعنى النبيل الذي تنطوي عليه كلمة "بطولة" في هذه التحية العربية للغوطة، ذلك أن البطل السوري هنا تحديدًا في الغوطة هو الغوطة نفسها، المكان الجغرافي والبشري.
التاريخ يُصنع عادة ببطء وتراكم، ذلك أن التاريخ ليس مبنىً يجري تشييده بالحجارة والأسمنت، بل هو صياغة وميلاد وصناعة رجال.
الأدب، أيضًا جزء من التاريخ، وأراهن هنا على أن الغوطة السورية ستكون في السنوات القادمة تاريخ وأدب سوريا الجديدة.