مجيب الرحمن* 
منذ أن تم تأسيس مجمع الملك سلمان العالمي للغة العربية في الرياض عام 2020م، بدأ المجمع يرسم طريقًا واضحًا نحو تعزيز مكانة اللغة العربية على الساحة الدولية. ويركّز المجمع على جعل العربية أكثر انتشارًا في برامج تعليم اللغات الأجنبية، من خلال إطلاق مبادرات تعليمية متنوعة، وإعداد معايير علمية دقيقة، وبناء شراكات واسعة مع مؤسسات تعليمية حول العالم. وهذه الجهود مستمدة مباشرة من برنامج تنمية القدرات البشرية، الذي يُعد أحد أعمدة رؤية المملكة 2030، حيث يُولي أهمية كبرى لتمكين المتعلمين غير الناطقين بالعربية من إتقانها، ليس فقط كلغة دراسية، بل كأداة للتواصل الحضاري والثقافي العميق.
وكل المبادرات والبرامج التي ينفذها المجمع حول العالم لنشر اللغة العربية وتعزيزها هي نتاج سنوات من الدراسة والبحث والتمحيص، لتعود بالنفع المنشود على المستفيدين دون هدر للموارد. ويتولى المسؤولون التنفيذيون عن هذه البرامج، وعلى رأسهم الأمين العام الدكتور عبد الله بن صالح الوشمي، ومن زملائه أمثال الأستاذ الدكتور سعد القحطاني، تنفيذها بعناية بالغة ودقة فائقة. ويسبق التنفيذ تخطيط دقيق، وتواصل عميق مع الجهات المعنية في بلد التنفيذ. ونخص بالذكر جمهورية الهند، التي تحتل مرتبة عليا في أولويات المجمع، حيث نفذ المجمع عددًا لا بأس به من البرامج النوعية التي أثمرت ثمارًا يانعة وفوائد جمة لأساتذة اللغة العربية وطلابها في الهند.
وفيما يلي وصف موجز لبعض هذه البرامج التي نفذها المجمع في السنتين الماضيتين، مع وجود برامج أخرى قيد التنفيذ أو في مرحلة التخطيط.
وفي هذا السياق، يبرز برنامج "شهر اللغة العربية في جمهورية الهند" كمثال حي على تطبيق هذه الرؤية. وأُطلق البرنامج في يوليو 2024م، واستمر لمدة شهر كامل في مدينتي نيودلهي وكيرالا، بالتعاون الوثيق مع جامعات هندية مرموقة مثل جامعة جواهر لال نهرو، وجامعة كيرالا، إلى جانب اتحاد أساتذة وعلماء اللغة العربية في الهند، ومراكز اللغة العربية في جامعات أخرى مثل جامعة دلهي والجامعة الملية الإسلامية. ولم يقتصر البرنامج على أنشطة روتينية، بل شمل مجموعة متكاملة من الفعاليات التعليمية والثقافية، مثل تطوير مناهج تعليم العربية بما يتناسب مع السياق التعليمي الهندي، وتقديم دورات تدريبية متقدمة للمعلمين تركز على استراتيجيات التعليم النشط، وتنظيم مسابقات ثقافية في مجالات الإلقاء والسرد القصصي والخط العربي، بالإضافة إلى ندوات علمية تناقش التحديات الرئيسة في تدريس العربية كلغة ثانية.
بمشاركة الأمين العام للمجمع والقائم بأعمال السفارة بنيودلهي؛ المشرف على أعمال الملحقية الثقافية بالهند بالإنابة أ.عبدالله محمد بن عبدالله يحضر حفل افتتاح برنامج شهر #اللغة_العربية الذي ينظمه #مجمع_الملك_سلمان العالمي للغة العربية بالتعاون مع جامعة جواهر لعل نهرو بنيودلهي. pic.twitter.com/CFRPVxG8ua
— الملحقية الثقافية السعودية في الهند (@sacaindia) July 19, 2024
وهذا البرنامج لم يكن مجرد حدث عابر، بل خطوة تحولية ساهمت في تغيير نظرة المؤسسات التعليمية الهندية إلى اللغة العربية. وبدلاً من اعتبارها مادة اختيارية تقليدية، أصبحت العربية تُعامل كلغة حية جاذبة، قادرة على ربط الثقافات وفتح آفاق مهنية وأكاديمية جديدة. وقد أكد الأمين العام للمجمع، الدكتور عبد الله بن صالح الوشمي أن مثل هذه المبادرات تهدف إلى بناء صورة إيجابية عن اللغة العربية، وإبراز الدور السعودي في خدمتها عالميًا.
ومن الجوانب البارزة في البرنامج دور الجامعات الهندية، التي انتقلت من مجرد متلقية للدعم إلى شريكة فاعلة. وشارك الأساتذة الهنود بنشاط في بعض البرامج التدريبية، واستفاد الطلاب من جلسات تطبيقية تركز على استخدام اللغة في سياقات واقعية يومية واحترافية. وهذا التفاعل ساعد في سد الفجوة بين النظرية والممارسة، التي غالبًا ما تواجه تعليم اللغات الثانية، مما مكن المعلمين من تبني أساليب تدريس حديثة تناسب الفصول الدراسية في الهند.

كما أدخل المجمع اختبار "همزة" كأداة معيارية موثوقة، مشابهة لاختبارات TOEFL وIELTS في اللغات الأخرى. أُجري الاختبار خلال البرنامج لعدد كبير من المتعلمين في جامعة جواهر لال نهرو وجامعة كيرالا، مما منح الطلاب شهادات معتمدة دوليًا تثبت كفاءتهم اللغوية. وهذا الاختبار، الذي يعقد مرتين في السنة في الهند يقيس المهارات الأربع الرئيسة (الاستماع، التحدث، القراءة، الكتابة)، ويُعد حافزًا قويًا للطلاب الهنود لمواصلة تعلمهم، خاصة في مجالات مثل الترجمة والتعليم والبحث العلمي، حيث تُطلب الكفاءة العربية بشكل متزايد.
ويهتم المجمع أيضًا بترجمة الكتب العربية إلى اللغة الأردية والهندية ونشرها، مؤخرًا تولى المجمع ترجمة كتاب "مأة سؤال عن العربية" إلى الأردية والهندية، وهذا كتاب نافع جدا يجيب عن بعض الأسئلة المهمة عن اللغة العربية. كما يهتم المجمع بإجراء دراسة مقارنة عن حالة اللغة العربية في الهند ودول أخرى حيث العربية فيها ليست اللغة الأولى، ومثل هذه الدراسات تدلنا على مواضع الضعف والقوة في مناهجنا لتعليم العربية. كما يشجع المجمع على تقديم مقترحات بحثية إليه عن وضع اللغة العربية في الهند، وهناك فعلا عدة مشاريع بحثية جارية بشأن اللغة العربية في الهند. وإن المجمع حريص جدًا على التعاون مع كافة الجهات المعنية للنهوض باللغة العربية في الهند وأنحاء أخرى من العالم.
وبعيدًا عن القاعات الدراسية، يقدم المجمع برامج الانغماس اللغوي التي تتيح للمتعلمين العيش في بيئة عربية أصيلة داخل المملكة العربية السعودية. وهذه البرامج، التي أُطلقت نسخ متعددة منها في السنوات الأخيرة، تعتمد على التعرض المكثف للغة في سياقات يومية طبيعية، مما يسرع اكتساب المهارات ويبني ثقة حقيقية لدى المتعلم. ووفقًا لدراسات متخصصة في تعليم اللغات، فإن هذا النهج يفوق الأساليب التقليدية فعالية، ويُكمل البرامج المحلية في دول مثل الهند، حيث يمكن أن يتقدم الطلاب الهنود للمشاركة فيها لتعزيز تجربتهم اللغوية. وفعلا شاركت دفعتان من الطلبة والطالبات حتى الآن في برنامج الانغماس اللغوي في الرياض واستفاد المشاركون منها استفادة قصوى.
وأما في مجال تأهيل المعلمين، فيمتد دور المجمع إلى تقديم تدريبات أكاديمية متقدمة بالشراكة مع مؤسسات دولية. فقد شارك مؤخرًا أربعة من الأساتذة الهنود من جامعات هندية مختلفة في برنامج تأهيل الخبراء الذي أقيم في جدة تحت رعاية المجمع والتعاون مع جامعة الملك عبد العزيز بجدة. وأفاد الأساتذة المشاركون بأن تجربتهم كانت رائعة، وأنهم استفادوا كثيرًا مما تعلموه، واكتسبوا خبرة ميدانية قيمة من خلال المعايشة اللغوية والثقافية التي استمرت شهرًا كاملاً.
كما سيشارك أستاذ واحد متخصص في اللغة العربية في الدورة التالية التي ستبدأ في مطلع العام المقبل. ويتوقع أن تقام الدورة مرتين في السنة، نظرًا للإقبال الكبير عليها من مختلف أنحاء العالم، وما تتركه من أثر بالغ في عملية التأهيل، حيث ينعكس ذلك إيجابًا على طريقة تدريس المعلم المشارك، مما يرفع جودة التدريس ويسهم في توسيع انتشار اللغة العربية.
وفي النهاية، تُشكل هذه المبادرات جزءًا من استراتيجية شاملة تشمل إنشاء معايير تقييم مثل "همزة"، وتطوير القدرات التدريسية، وتعزيز التفاعل الثقافي عبر الانغماس، والتعاون الدولي الواسع. وهذه العناصر تعمل معًا لبناء نظام تعليمي مستدام للعربية في الدول غير الناطقة بها بما فيها الهند.
اقرأ أيضًا: الهند والأردن يصدران بيانًا مشتركًا في ختام زيارة رئيس الوزراء مودي إلى الأردن
وإن جهود مجمع الملك سلمان في الهند قد تجاوزت الإطار الرمزي لتصبح تحولًا منهجيًا حقيقيًا، يركّز على الجودة والمعيارية والتطوير المهني. ويمكن تلخيص الأثر في ثلاثة أبعاد رئيسة: مهاري، من خلال رفع كفاءة الطلاب عبر المناهج والامتحانات؛ مهني، بتمكين المعلمين من أدوات حديثة؛ وثقافي-استراتيجي، بجعل العربية جسرًا حضاريًا بين الشعوب الهندية والعربية، مما يعزز مكانتها كلغة تواصل حية وليست مجرد مادة أكاديمية جامدة. وهكذا، تستمر هذه المبادرات في رسم مستقبل مشرق للغة العربية في واحدة من أكبر الدول سكانًا في العالم.
*أستاذ بمركز الدراسات العربية والإفريقية ورئيسه سابقًا، جامعة جواهر لال نهرو، نيودلهي.