زيارة متقي إلى ديوبند: محاولة لإعادة تشكيل الصورة والانفتاح على "الدبلوماسية الدينية"

13-10-2025  آخر تحديث   | 13-10-2025 نشر في   |  أحمد      بواسطة | آواز دي وايس 
زيارة متقي إلى ديوبند: محاولة لإعادة تشكيل الصورة والانفتاح على
زيارة متقي إلى ديوبند: محاولة لإعادة تشكيل الصورة والانفتاح على "الدبلوماسية الدينية"

 


ملك أصغر هاشمي*

يقوم وزير الخارجية الأفغاني بالوكالة، أمير خان متقي، بزيارة إلى الهند لمدة ستة أيام. وفي إطاره زار، يوم السبت، المدرسة الدينية القديمة "دار العلوم ديوبند". وأثارت زيارته لدار العلوم موجة واسعة من النقاش والجدل داخل الأوساط الهندية، فيما شهدت منصات التواصل الاجتماعي تفاعلًا واسعًا وتعليقات متباينة حول الزيارة.

وفي خضم هذا الجدل، عاد إلى التداول مقطع فيديو قديم يعود إلى نحو عشر سنوات لمستشار الأمن القومي أجيت دوفال، يظهر فيه وهو يقول في إحدى المناسبات: "لن تكون باكستان صديقة لنا، بل تكون دومًا عدوًا لعدوّنا. وأما طالبان، فلا تشكل تهديدًا مباشرًا للهند. وإن صورة الهند في أفغانستان أفضل بكثير من صورة الدول الأخرى".

وأثار مقال تحليلي للباحثة سوميا أواستي، الباحثة في مركز الأمن والاستراتيجية والتكنولوجيا في مؤسسة "أوبزرفر ريسيرش فاونديشن"للأبحاث نقاشًا جديدًا في الأوساط السياسية والإعلامية.

وتطرح أواستي في مقالها تساؤلًا حول ما إذا كان سماح الحكومة الهندية لوزير الخارجية الأفغاني بالوكالة، أمير خان متقي ، بزيارة نيودلهي يُمثل خطوة مدروسة ضمن رؤية استراتيجية تتبناها الهند، أم أنه مسعى لإحياء العلاقات مع أفغانستان عبر استدعاء الروابط التاريخية القديمة بين البلدين؟

وتجدر الإشارة إلى أن أفغانستان والهند تربطهما علاقات تاريخية وثقافية ودينية عميقة، خاصة من خلال العلاقات التي أسسها علماء ديوبند، الذين شكّلوا على مدى العقود جسرًا فكريًا وروحيًا متواصلًا بين الشعبين. ففي هذا السياق، إن زيارة أمير خان متقي إلى ديوبند لا تقتصر على بعدها الديني أو الرمزي، بل تحمل أيضًا دلالات استراتيجية.

ويقوم أمير خان متقي بزيارة رسمية إلى الهند لأسبوع، يجري خلالها مباحثات مع وزير الشؤون الخارجية إس. جايشانكار، تتناول قضايا الأمن والتجارة وعددًا من الملفات الثنائية والإقليمية الأخرى.

ويُذكر أن دار العلوم ديوبند تُعد واحدة من أهم المؤسسات الدينية التاريخية في جنوب آسيا، إذ توازي جامعة الأزهر في القاهرة من حيث مكانتها العلمية والدينية، وتأثيرها الفكري الواسع في العالم الإسلامي.

وتُعد زيارة أمير خان متقي بمثابة رمز لإحياء العلاقات التاريخية والدينية والاستراتيجية التي تربط أفغانستان بالهند، من خلال إحدى أبرز المدارس الفكرية الإسلامية تأثيرًا في جنوب آسيا.

وتعكس مساعي حركة طالبان في أفغانستان للتواصل مع المرجعية الفكرية والروحية لمدرسة ديوبند رغبتها في اكتساب شرعية دينية أوسع، وإدراكها في الوقت نفسه لدور الهند ومكانتها في الإرث العلمي الإسلامي الذي أسهم في تشكيل الهوية الدينية لأفغانستان.

وكتبت أواستي أن دار العلوم ديوبند، التي تأسست عام 1866م في بلدة ديوبند الواقعة بمنطقة سهارنبور في ولاية أترا براديش، برزت كـمركز رائد للتعليم الإسلامي يجمع بين الإصلاح الأخلاقي ومقاومة الحداثة الاستعمارية.

وقام محمد قاسم النانوتوي ورشيد أحمد الكنغوهي بتأسيس دار العلوم ديوبند برؤية إصلاحية تهدف إلى إحياء النهضة الدينية على أساس الفقه الحنفي والتزكية الروحية. فسعت المؤسسة إلى حماية الإرث العلمي والديني الإسلامي في مرحلة شهدت تآكلًا ثقافيًا تحت وطأة الاستعمار، دون الانزلاق إلى تسييس الخطاب الديني أو توجيهه لأغراض سياسية. وبذلك أرست المؤسسة منذ نشأتها مشروعًا فكريًا إصلاحيًا يجمع بين الأصالة والاجتهاد، هدفه تجديد الوعي الديني وصون الهوية الإسلامية عبر العلم والانضباط الأخلاقي.

وسعى علماء ديوبند، خلال حركة الرسائل الحريرية الشهيرة (1913–1920)، إلى بناء تحالفات مع الدولة العثمانية وأفغانستان والإمبراطورية الألمانية في محاولةٍ لمناهضة الاستعمار البريطاني في الهند.

وكانت حركة الرسائل الحريرية من أبرز الحركات الثورية ضد الاستعمار البريطاني في الهند خلال العقد الثاني من القرن العشرين، قادها  محمود حسن، أحد كبار علماء دار العلوم ديوبند. سعت الحركة إلى تنظيم ثورة مسلحة ضد الحكم البريطاني بالتنسيق مع الدولة العثمانية وأفغانستان وألمانيا، اعتمادًا على شبكة من العلماء والوطنيين الذين استخدموا المناديل الحريرية وسيلةً لتبادل الرسائل السرّية المشفرة حول الخطط العسكرية والسياسية.

ورغم فشل الحركة في تحقيق أهدافها المباشرة، فإنها شكّلت منعطفًا مهمًا في مسار الكفاح الوطني الهندي ضد الاستعمار، تركت أثرًا عميقًا في الوعي الديني والسياسي بين الهند وأفغانستان، إذ أسست شبكة فكرية وروحية مشتركة جمعت بين العلماء والمصلحين في البلدين، وأسهمت في ترسيخ روابط تاريخية متينة قائمة على النضال المشترك والتفاعل الثقافي والديني.

وأصبحت دار العلوم ديوبند، منذ أواخر القرن التاسع عشر، مركزًا علميًا يجتذب الطلاب من مختلف أنحاء الهند وأفغانستان وآسيا الوسطى والمناطق الحدودية لباكستان الحالية. وكان العلماء الأفغان من أوائل الطلاب الأجانب الذين تلقّوا تعليمهم في ديوبند، ثم رجعوا إلى بلادهم وأسسوا مدارس دينية تقوم على مناهج ديوبند وأساليبها التعليمية، مما أسهم في نشر الفكر الديوبندي وترسيخ الروابط الدينية والثقافية بين الهند وأفغانستان.

وتركت العلاقات الديوبندية بين الهند وأفغانستان أثرًا عميقًا في الوعي الديني والسياسي لكلا البلدين، وأسست شبكات فكرية مشتركة ربطت المجتمعين على مدى عقود. واستمر الطلاب الأفغان في الالتحاق بدار العلوم ديوبند حتى منتصف القرن العشرين، ورغم تراجع أعدادهم بعد استقلال الهند وتأسيس باكستان، فإن حضورهم لم ينقطع تمامًا، إذ واصل الجيل الجديد من الأفغان بين الخمسينيات والسبعينيات الدراسة في ديوبند، بدعم من مؤسسات دينية وتجار حافظوا على الروابط الثقافية مع الهند.

وتقول أواستي إن الفكر الديوبندي فقد طابعه العلمي والإصلاحي الأصلي بعد انتقاله من الهند، ليتحوّل إلى أداة سياسية تخدم المصالح الباكستانية، وارتبط بالطابع الجهادي الذي قامت بتمويله الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية، خلال الحرب الباردة.

وانقطع التواصل الفكري بين الهند وأفغانستان مع الغزو السوفييتي لأفغانستان عام 1979م، حين أصبحت باكستان ملاذًا لملايين اللاجئين الأفغان، وظهرت على أراضيها المدارس الديوبندية، وفي مقدمتها دار العلوم الحقانية في أكورة ختك، التي تحولت إلى بديلٍ عن المدارس الهندية ومركزٍ محوري للتأثير الديني والتكوين العلمي في المنطقة.

وتبلورت الأسس الفكرية لحركة طالبان في هذه المدارس الديوبندية الباكستانية حيث تحوّل الفكر الديوبندي من نهجٍ علمي وإصلاحي إلى تيار مؤدلج يخدم الأهداف الاستراتيجية الباكستانية، مدعومًا بـتمويل أمريكي–سعودي في سياق الحرب الباردة، ومتأثرًا بـالطابع الجهادي الأفغاني.

وبحلول التسعينيات، تحول الفكر الديوبندي الهندي من تيارٍ علمي إصلاحي إلى أداة سياسية تخدم أهداف باكستان الإقليمية، فيما تبنت حركة طالبان عام 1994م رموزه ومصطلحاته دون جوهره الفكري أو تعدديته. وبعد سقوط طالبان عام 2001م، عاد بعض الأفغان للدراسة في الهند بطرق محدودة، ومع عودة الحركة إلى الحكم عام 2021م، تعزز الارتباط الرمزي بينها وبين ديوبند رغم غياب أي اعتراف رسمي، ما يعكس استمرار التداخل بين الدين والسياسة في المشهد الأفغاني.

وتكتسب الزيارة لوزير الخارجية الأفغاني أمير خان متقي إلى دار العلوم ديوبند أهمية رمزية بالغة، إذ تمثل أول صلة مباشرة لمسؤول رفيع في حكومة طالبان بالمصدر الهندي للجذور الفكرية للحركة. فرغم تعدد التحولات التي طرأت على فكر طالبان، فإن جذوره لا تزال تمتد إلى التراث الديوبندي الهندي.

وإن النسخة الأفغانية من هذا الفكر أصبحت مزيجًا هجينًا يجمع بين الأفكار الديوبندية والعادات البشتونية، وتأثيرات المدرسة الوهابية عبر شبكة حقّانية. وبناءً على ذلك، فإن زيارة متقي لا تحمل طابعًا دينيًا بقدر ما تعكس خطوة مدروسة في إطار "دبلوماسية دينية" تسعى من خلالها طالبان إلى إعادة تموضعها فكريًا وسياسيًا في علاقاتها الإقليمية.

وتعدّ الزيارة إلى دار العلوم ديوبند محاولة لإثبات استقلالها الفكري عن النفوذ الباكستاني. وتسعى طالبان إلى تقديم نفسها كوريثةٍ لحركة إصلاح ديني علمي، لا كـنظامٍ ذي طابعٍ عسكري أو متشدد.

كما تحمل الزيارة أبعادًا جيوسياسية واضحة، إذ تمثل محاولة لتأكيد استقلال كابول عن الوصاية الفكرية الباكستانية. فهي تتيح للحكومة الأفغانية، ولو على المستوى الرمزي، الابتعاد عن نفوذ شبكة حقّاني والعلماء الباكستانيين الذين طالما ارتبطوا بـتمثيل المصالح الاستراتيجية لإسلام آباد داخل المشهد الأفغاني.

وتسعى حركة طالبان من خلال هذه الزيارة إلى تقديم نفسها أكثر اعتدالًا أمام المجتمع الدولي، إذ يمنحها الارتباط بـدار العلوم ديوبند – المعروفة في الهند بنزعتها المحافظة وابتعادها عن التطرف – فرصة لتقديم نفسها كحركة منفتحة على التجديد والإصلاح. كما تعكس الزيارة رغبة طالبان في إعادة الارتباط بالإرث الإسلامي الواسع في جنوب آسيا، وهو إرث يتجاوز الحدود السياسية ويعود إلى ما قبل تأسيس باكستان، بما يعزز ادعاءها بالاستقلال الفكري والأصالة الدينية.

وتشكل مبادرة طالبان فرصة للهند لفتح قنوات تواصل جديدة تقوم على الحوار الديني الذي كان مصدر خلاف بين الطرفين. وتدرك نيودلهي أن استقرار أفغانستان يشكّل ركيزة أساسية لمصالحها الإقليمية، وبعد أن انصبّ تركيزها لسنوات على مشروعات البنية التحتية والمساعدات الإنسانية والتنموية، أصبحت المرحلة الحالية تتطلب إضافة بُعد جديد هو "الدبلوماسية الدينية" كأداة لتعزيز التفاهم والتقارب مع كابول.

وتمنح الجذور التاريخية للهند في التراث الديوبندي نيودلهي قوة فكرية ناعمة تمكّنها من توجيه الخطاب الديني في أفغانستان من خلال إحياء القيم الأصلية الديوبندية القائمة على العلم والتعايش السلمي، دون أن يقتضي ذلك الاعتراف الرسمي بحكومة طالبانويمكن تحقيق ذلك من خلال تعاون ثقافي وأكاديمي وديني يشمل برامج تعليمية وتبادل علمي عبر الإنترنت تعزز التفكير النقدي والاعتدال في التعليم الديني.

ويقدّم إطار "4D" – الدبلوماسية، التنمية، الحوار، وديوبند نموذجًا متكاملًا لانخراط الهند في الساحة الأفغانية، قائمًا على إبراز دورها كوريثة للتراث الإسلامي العلمي الذي يؤمن بـالاعتدال والتوازن، لا كدولة غربية تسعى لفرض نموذجها السياسي. ومن خلال تمكين علماء ديوبند الهنود من التأكيد العلني على موقف الإسلام الرافض للعنف، تستطيع نيودلهي استعادة الخطاب الديني الذي شوّهته باكستان.

وأما إشارات طالبان المتكررة إلى دار العلوم ديوبند، رغم ارتباطها المؤسسي بـشبكة الحقانية الباكستانية، فتعكس محاولة لإضفاء شرعية فكرية مستقلة. ففي حين تُعرف الحقانية عالميًا كمؤسسة ارتبطت بالتطرف والتوظيف السياسي للدين، تمثل ديوبند في المقابل الأصالة والمحافظة الفكرية والجذور العميقة للفقه الحنفي، ما يمنح طالبان رصيدًا رمزيًا تسعى لتوظيفه لإبراز استقلالها عن الهيمنة الباكستانية.

وتقول أواستي أن طالبان تستخدم انتماءها لمدرسة ديوبند لاكتساب شرعية دينية وتمييز نفسها عن التيارات السلفية والجهادية، ولتقديم نفسها كـامتداد للتراث الإسلامي في جنوب آسيا،ى بدلاً من كونها حركة متطرفة. كما ترى أن الهند يمكنها، من خلال إحياء تقاليدها الديوبندية المعتدلة والعلمية، مواجهة الخطاب الباكستاني والمساهمة في توجيه الفكر الديني الأفغاني نحو الاعتدال والحوار.

اقرأ أيضًا: الزيارة التاريخية لأمير خان متقي تعكس التحول الجريء والنهج الواقعي في السياسة الخارجية للهند

وترى أن العلاقة المتنامية بين طالبان ودار العلوم ديوبند تعكس صراعًا أوسع حول هوية الإسلام في جنوب آسيا، وتمنح الهند فرصة لاستخدام "ديوبند" كقناة للحوار الديني غير الرسمي. ومن هذا المنطلق، فإن زيارة متقي إلى ديوبند لا تقتصر على البعد الرمزي، بل تمثل فرصة استراتيجية للهند لتحويل الإرث الديني المشترك إلى أداة لتحقيق الاستقرار الإقليمي.

قصص مقترحة