مجيب الرحمن
عندما أطلق رئيس الوزراء ناريندرا مودي مبادرة "الهند الرقمية" (Digital India) في 1 يوليو 2015م، كانت الفكرة بمثابة حلم طموح لتحويل الهند إلى دولة تعتمد التكنولوجيا في كل جانب من جوانب حياتها. وفي غضون عشر سنوات، أصبح هذا الحلم حقيقة ملموسة أثّرت تأثيرًا هائلاً في حياة الملايين، بل وغيَّرت بالفعل طريقة التعامل المالي للشعب الهندي البالغ 1.46 مليار نسمة، وربطت القرى النائية بالعالم، وجعلت الخدمات الحكومية في متناول الجميع بنقرة زر. وفي هذا المقال، سنأخذكم في جولة لاستعراض هذه الرحلة المذهلة، وما حققته المبادرة من إنجازات، مع تسليط الضوء على أهدافها ومراحلها البارزة.فما هي "الهند الرقمية" يا تُرى؟. تخيلوا بلدًا شاسعا أكبر في تعداد سكانها (1.46 مليار نسمة) من قارة بأكملها مثل قارة أوروبا (عدد سكان أوربا 744 مليون نسمة)، يستطيع فيه الجميع، من المزارع في قرية نائية إلى الطالب في مدينة مزدحمة، الوصول إلى الإنترنت، والخدمات الحكومية، والفرص الاقتصادية بسهولة. هذا بالضبط ما تسعى "الهند الرقمية" إلى تحقيقه. وتقوم المبادرة على ثلاث ركائز أساسية:
وتضم المبادرة عدة برامج، مثل "بهارات نت" لتوصيل الإنترنت إلى القرى، و"آدهار" للهوية الرقمية، وتطوير المدفوعات الرقمية، ودعم التصنيع الإلكتروني.
رحلة المبادرة عبر السنوات
المرحلة الأولى (2015-2018): وضع الأساس في البداية، كان الهدف بناء الأرضية الصلبة. برنامج "بهارات نت" كان نجم هذه المرحلة، حيث بدأ بمد كابلات الألياف البصرية لربط أكثر من 250,000 قرية بالإنترنت. تخيلوا قرية نائية كانت معزولة تمامًا، وفجأة أصبح بإمكان أهلها التواصل مع العالم! في الوقت نفسه، نمت منصة "آدهار" لتصبح أكبر نظام هوية بيومترية في العالم. وبدأت منصة "آدهار" في الهند عام 2009م تحت إشراف هيئة الهوية الفريدة الهندية (UIDAI)، بهدف إنشاء نظام موحد للهوية الرقمية لكل مواطن. وكانت الفكرة تقديم رقم هوية فريد مكون من 12 رقمًا مدعومًا ببيانات بيومترية (مثل بصمات الأصابع ومسح قزحية العين) لضمان الدقة والأمان. وجاءت المبادرة لمعالجة تحديات مثل الفساد وتسريب المزايا الحكومية، حيث أتاحت للحكومة توزيع الخدمات والإعانات مباشرة للمستحقين. وبحلول 2015م، أصبحت "آدهار" ركيزة أساسية لمبادرة "الهند الرقمية"، وسجّل أكثر من مليار شخص بياناتهم بحلول 2016م، مما جعلها أكبر نظام هوية بيومترية في العالم، محولةً طريقة تقديم الخدمات في الهند.
نظم هوية رقمية أخرى
من الأشياء التي غيّرت قواعد اللعبة: إطلاق واجهة الدفع الموحدة (UPI). فجأة، أصبح بإمكان أي شخص إرسال الأموال أو دفع فاتورة باستخدام هاتفه الذكي في ثوانٍ!فيما شهدت المرحلة الثانية (2018-2022) التوسع والشمول، فبدأت منصات مثل "DigiLocker"، التي تتيح للمرء تخزين وثائقه الرسمية مثل جواز السفر أو شهادة الميلاد رقميًا، و"e-Hospital"(المشتشفى الإلكتروني) لحجز مواعيد المستشفيات. كما أطلقت منصة"SWAYAM" التي تقدم دورات تعليمية مجانية عبر الإنترنت، مما ساعد ملايين الطلاب على التعلم من منازلهم.وفي هذه الفترة، قفز عدد مستخدمي الإنترنت في الهند من 400 مليون في 2015م إلى أكثر من 800 مليون بحلول 2022م ومن بين الأسباب الرئيسة لهذا التوسع الهائل هو انخفاض تكلفة الإنترنت وانتشار الهواتف الذكية بأسعار معقولة. ونال استخدام الإنترنت لغرض التعلم الإلكتروني القفزة الكبيرة أيام جائحة كورونا (2020-2022)، حيث أغلقت المؤسسات التعليمية أبوابها، ولكنها فتحت الأبواب على مصراعيها للتعليم عن بعد.
وأما المرحلة الثالثة (2022-2025): فتمثلت في الابتكار والقفزة للأمام، حيث بدأت الهند تركز على التقنيات الحديثة مثل الذكاء الاصطناعي وإنترنت الأشياء. كما ساندت مبادرة "صنع في الهند" تصنيع الهواتف الذكية والإلكترونيات محليًا، مما جعل الهند مركزًا عالميًا لإنتاج الإلكترونيات والهواتف الذكية. وأيضًا، تم تعزيز الأمن السيبراني لحماية هذا النظام الرقمي الضخم.
إنجازات مذهلة
ربط القرى بالعالم: بفضل "بهارات نت"، تم ربط نحو 200,000 من أصل 250,000 وحدة بانشايات قروية بالإنترنت حتى يناير 2025م. وهذا يعني أن المزارعين في هذه القرى يمكنهم الآن التحقق من أسعار المحاصيل، والاطلاع على أحوال الطقس والحصول على المعلومات عن كل ما يتعلق بالمحاصيل، وغيرها من المعلومات، كما يدرس الطلاب عبر الإنترنت في جامعات هندية وعالمية في منازلهم حتى في القرى النائية.
ثورة المدفوعات الرقمية:
تسعى منصة UPIلتصبح نموذجا عالميا، إذ تُسجّل أكثر من 100 مليار معاملة سنويًا. من بائع الشاي في الشارع إلى المتاجر الكبرى، الجميع يستخدم UPI! وقد بلغ الاعتماد على هذه المنصة حدًّا جعل الكثيرين لا يحملون معهم لا نقودًا ورقية ولا بطاقات دفع، مما يسبب أحيانًا مشكلات حقيقية في إتمام عمليات الدفع في حال ضعف الشبكة أو تعطلها.
هوية رقمية للجميع: إن بطاقة "آدهار" لم تكن مجرد بطاقة هوية، بل أداة سحرية لتوزيع الدعم الحكومي، مثل إعانات الوقود أو المنح، مباشرة إلى حسابات المواطنين، مما قلل من التسرب والفساد.
تعليم بلا حدود: منصات مثل "SWAYAM" ومكتبة الهند الرقمية (NDLI) فتحت أبواب التعليم للملايين. الآن، يمكن أن يتعلم الطالب في قرية نائية البرمجة أو اللغة الإنجليزية أو يتعلم المهارات مجانًا.
اقتصاد رقمي مزدهر: ساعدت المبادرة في نمو الشركات الناشئة، حيث أصبحت الهند موطنًا لأكثر من 100,000 شركة ناشئة بحلول 2025، مما عزز مساهمة التكنولوجيا في الاقتصاد الوطني.
التحديات والنظرة للمستقبل
في الحقيقة، الطريق لم يكن مفروشًا بالورود. فما زالت هناك تحديات مثل ضعف الإنترنت في بعض المناطق الريفية، أو نقص المهارات الرقمية لدى البعض، بالإضافة إلى مخاطر القرصنة الإلكترونية. فبحسب تقرير في صحيفة "بزنس ستاندارد" (20/3/2025) بالإجمال، بين أبريل 2024 ويناير 2025 (FY25)، تم تسجيل 2.4 مليون حادثة احتيالية على المدفوعات الرقمية بما يناهز4,245 كرور (42.45 مليار روبية)، مقارنة بـ 2,537 كرور خلال العام السابق، بنمو قدره 67٪، لكن الحكومة تعمل بجد لسد هذه الفجوات، سواء عبر تحسين البنية التحتية أو تعزيز قوانين الأمن السيبراني. وفي المستقبل، تهدف مبادرة "الهند الرقمية" إلى دمج تقنيات مثل الجيل الخامس والذكاء الاصطناعي لتعزيز الابتكار. ولماذا لا؟ فالهند تسعى لتصبح يومًا ما مركزًا عالميًا يصدر حلولًا رقمية مثلUPI إلى العالم كله.
وختاما، فإن مبادرة "الهند الرقمية" لم تكن مجرد مشروع حكومي، بل قصة نجاح جماعية: من القرى النائية إلى المدن الصاخبة، غيّرت هذه المبادرة طريقة عيشنا وعملنا. ومع استمرار الهند في اعتماد التكنولوجيا، يبدو المستقبل مشرقًا، و"الهند الرقمية" ليست مجرد وعد، بل واقع ينبض بالحياة.