لكناو تطهو بروح شاعر… ودلهي بطبع مغامر

15-11-2025  آخر تحديث   | 15-11-2025 نشر في   |  أحمد      بواسطة | آواز دي وايس 
لكناو تطهو بروح شاعر… ودلهي بطبع مغامر
لكناو تطهو بروح شاعر… ودلهي بطبع مغامر

 


ويديوشي غور*

لطالما كنتُ أؤمن بأن الطعام يروي حكاية المكان أفضل بكثير مما يمكن أن يفعله أيُّ معلمٍ أثري أو متحف. فعندما أسافر، لا أحمل معي قائمة بالمعالم السياحية، بل قائمة بالأطباق. وهكذا وجدتُ نفسي في صباح شتوي على متن قطار من نيودلهي إلى لكناو، لأتذوّق وأفهم كيف تتحدث المدينتان العظيمتان من خلال طعامهما.

ىبالنسبة لي، تبدو دلهي كطعام يتحرّك بلا توقّف. مدينة سريعة وصاخبة ومليئة بالتناقضات. وغالبًا ما تبدأ أيامي في العاصمة بصوت الهسيس المريح لـلطبخ عند عربة طعام على جانب الطريق. والباراثا المحشوة بالبطاطا أو البانير أو اللحم المفروم تنتفخ في السمن، بينما يضع البائع فوقها ملعقة كبيرة من الزبدة البيضاء، ما يجمع بين البساطة والترف معًا—خليط من روح البنجاب الدافئة وحب دلهي المفرط لكل ما هو وفير وغني.

ومع حلول الظهيرة، تتغيّر ملامح المدينة تمامًا، تفوح رائحة "تشوليه بهاتوريه" من كل زاوية، وتمتزج بدخان الكباب المشوي في منطقة "كونوت بليس"، ومع عبق "جليبي" التي تدور في الزيت الساخن قرب "تشاندني تشوك".

دلهي مدينة تُروى من خلال طعامها؛ فسيفساء نكهات تشكّلت عبر الهجرات والتاريخ. إرثها المغولي يظهر في البرياني والنهاري، والبنجابيون تركوا بصمتهم في الدجاج بالزبدة والدال مخني، بينما يضيف جيلها العصري السوشي والتاكو وكاري التايلاند إلى المزيج.

وما يدهشني أكثر في طعام دلهي هو طبيعته الديمقراطية. يمكنك أن تتناول وجبة بمستوى ميشلان في مطعم فاخر، أو تأخذ طبق مومو من عربة في الشارع بخمسين روبية فقط، ومع ذلك تبدو التجربتان أصيلتين بالقدر نفسه. فطعام دلهي لا ينتمي لطبقة واحدة، ولا لدين واحد، ولا لحيّ واحد؛ إنه ينتمي لكل من يأكل بفرح.

ويشبه طعام دلهي مهرجانًا سريع الإيقاع، فوضويًا، مفعمًا بالحيوية. وأنت تأكله، بسرعة، وتمضي إلى وجهتك. فهو يُشبع الجوع لكنه لا يمنح مساحة للتأمّل. وعلى النقيض من ذلك، وجدت في لكناو الصمت والسكينة والاحترام العميق للطعام.

وكلما وصلتُ إلى لكناو، أشعر وكأن الهواء نفسه متبّل بدخان الكباب وعبق العِطْر والشِّعر. فهذه المدينة لا تطهو فحسب، بل تُبدع. وقد اختيرت "مدينة مبدعة في فن الطهو" ضمن قائمة اليونسكو. فتتزين مدينة لكناو بإرثها كأنّه جوهرة تتوارثها الأجيال جيلاً بعد جيل.

ويطهو الطاهي في سوق تشوك كباب برقة على صاج نحاسي، فتبدو القطع هشّة لكنها تكشف عند تذوقها عن نكهات شاعرية ومتدرجة. فالكباب هناك ليس مجرد طعام، بل مزيج من التاريخ والثقافة والصبر المطهوّ على الجمر.

ويحتاج طعام لكناو، على عكس دلهي، إلى الوقت. فالبرياني المطهوّ على طريقة الدَّم في قدور محكمة لا يقبل العجلة، والنهاري يُترك على النار طوال الليل، وحتى أنواع الخبز مثل الشيرمال والرومالي والورقي باراثا تحمل بصمات صنعة متقنة. هنا، الأكل ليس مجرد إشباع للمعدة، بل إيقاظٌ للذاكرة. فكل طبق يحكي قصة؛ قصة مطابخ النواب الملكية، ومهارة الطهاة التقليديين.

ولا يقتصر الفرح في لكناو على محبّي اللحوم فقط؛ فالأطباق النباتية مثل متر كي تهري ونيمونا وغيرها تحظى بالمكانة نفسها في قاموسها الطهوي. وإن المزيج المتوازن بين الرقيّ والبساطة هو ما يمنح طعام لكناو هويته الخاصة.

وما يدهشني أكثر هو كيف يجمع الطعام الناس هنا. وعند كشك شاي قرب أمين آباد، ناولني صاحب متجر هندوسي طبق كباب أعدّه جاره المسلم، وهو يبتسم قائلاً: "في لكناو… لا يمكنك أن تطهو دون أن تُشارك". وعندها أدركتُ كم يرتبط الطعام في هذه المدينة بتماسك المجتمع ووئامه. ففي عالم يمزّقه الاختلاف، تبقى مطابخ لكناو مكانًا يجد فيه الجميع مقعدًا.

وحين أفكّر اليوم في دلهي ولكناو، أدرك أنهما ليستا مدينتين متنافستين، بل مرآتان لفلسفتين مختلفتين في الحياة. فطعام دلهي يعكس طموحها القَلِق الذي لا يهدأ، بينما يعكس طعام لكناو رُقيّها ورفاهية روحها.

وتتحوّل الوجبات في دلهي إلى رحلة استكشاف—نكهات جديدة، تجارب مبتكرة، واتجاهات طهوية تتبدل باستمرار. فستجد مقاهي نباتية بجانب محال الكباب، والسوشي بمحاذاة الدهـابـا الشعبية. إنها مدينة تعيد ابتكار ذائقتها كما تعيد رسم أفقها دون توقف.

وأما لكناو، فهي تحفظ التقاليد كما لو كانت بهارًا ثمينًا. والوصفات لا تُكتب، بل تُهمس من جيلٍ إلى جيل. وزيادة مقدارٍ صغير أو نقصانه يُعدّ مساسًا بكرامة التاريخ نفسه. هناك اعتزازٌ بالإتقان، ولكن يقابله تواضعٌ في تقديم الطعام. فكل وجبة في لكناو تبدو كأنها قُربانٌ محمّل بالاحترام والمحبة.

اقرأ أيضًا: التحالف الوطني الديمقراطي يحقق فوزًا كاسحًا في انتخابات بيهار التشريعية

وحين أتناول اليوم كباب دلهي، يخطر ببالي لهب لكناو الهادئ والبطيء. لكن عندما أحتسي شاي لكناو، لا أتذكر شاي الأرصفة في دلهي. فلكناو تُطعمني بطريقة تتجاوز حدود المعدة؛ إنها تُغذي شيئًا أكثر إنسانية… أكثر روحانية. لكناو هي صلاةٌ للروح. ولهذا السبب اختارتها اليونسكو دون دلهي؛ فكما يُقال: "في دلهي تأكل لتسدّ الجوع… وأما في لكناو فتأكل لتحتفل به".

قصص مقترحة