محمود حسن*
كشفت "عملية سِندور"، التي أطلقتها الهند ضد باكستان، عن تقدّم ملحوظ في مجال تكنولوجيا الحرب. فقد تمكنت القوات الهندية من الرد على الأعداء ومهاجمتهم بفاعلية، من خلال اختبار أسلحة جديدة، معظمها صنع في داخل البلاد. وقد مثّلت هذه العملية نقطة تحوّل جوهرية في طبيعة الحروب التقليدية، إذ أثبتت قدرة الهند على تنفيذ ضربات دقيقة بثقة، معتمدةً على تقنيات وطنية مزوّدة بقدرات متقدمة في مجالات الاستخبارات والمراقبة والاستطلاع . ولم تقتصر هذه العملية على تحييد التهديدات عبر الحدود، بل جسّدت أيضاً التحوّل التدريجي للهند من دولة تعتمد على استيراد السلاح إلى دولة منتجة لمعدات دفاعية بمعايير عالمية. وقدأضافت هذه الأساليب الجديدة للحرب بُعداً جديداً إلى تكنولوجيا الحرب.
ويطلق بعض الاستراتيجيين على هذه التطورات مصطلح "حرب العصر الجديد"، بسبب اعتمادها الواسع على "النظام الجوي غير المأهول" الذي طورته "منظمة البحث والتطوير الدفاعي". وقدأثبتت هذه الأنظمة فاعليتها في التوغّل داخل العمق الباكستاني، والتقاط صور دقيقة لأهداف معادية، و هوم امكن للقوات الجوية الهندية من تنفيذ ضربات جراحية ناجحة. وتم استخدام طائرات أجنبية، مثل "هيرون إم كيه -اتش" الإسرائيلية، بالتوازي معطائرات تم تطويرها محلياً مثل طائرات "تبس-بي.اتش-201 و "رستم 2"، مدعومةً بأنظمة الاستخبارات والمراقبة والاستطلاع. كما لعبت الطائرات الرباعية الصغيرة (الكوادكوبتر) والطائرات المسيّرة الدقيقة، دورًا محوريًا في نقل البث الحي والبيانات التي تحدد الأهداف، عبر نظام إدارة المعركة المتكامل، الذي تم تفعيله من قبل الجيش. وكذلك، وفّر للهند نظام القيادة والتحكم الجوي المتكامل تغطية متواصلة عبر وصلات الأقمار الصناعية والمنصات المتنقلة. أما منظومة "آكاش تير" (سهم السماء)، وهي منظومة التحكم والإبلاغ الدفاعية، التي طوّرته شركة بهارات للإلكترونيات المحدودة محلياً، بالتعاون مع منظمة البحوث والدراسات الدفاعية الهندية، وفرت القيادة الرقمية للدفاع الجوي للجيش. وتدمج هذه المنظومة الرادارات وأجهزة الاستشعار وأنظمة الاتصال في منظومة واحدة محمولة على مركبات، قادرة على رصد الطائرات، والطائرات بدون طيار، والصواريخ المعادية.
وقد أصبح درع الدفاع الجوي سمة أساسية في الحروب المعاصرة. فالأنظمة الرادارية، ومراكز القيادة والسيطرة، والطائرات المقاتلة الدفاعية، وصواريخ الدفاع الجوي الأرضية، والمدفعية، وأنظمة الحرب الإلكترونية، قد أصبحت عناصر رئيسية تم توظيفها على نطاق واسع في المواجهات العسكرية الراهنة. وتُستخدم الرادارات عبرالأقمار الصناعية للكشف عن أي إطلاق لصواريخ باليستية عابرة للقارات. بينما تعمل شبكة الدفاع الجوي بالتنسيق مع منظومة القيادة والسيطرة والالتزام. وقد شهد الصراع الحالي استخداماً مكثفاً للطائرات المسيّرة؛ حيث استعانت باكستان بمسيّرات تركية وصينية ضد الهند، إلا أن الدفاعات الجوية الهندية تمكنت بسهولة من اعتراضها وتحييدها. وتؤكد الهند أنها أسقطت أكثر من 600 طائرة مسيّرة قادمة من الأراضي الباكستانية، فيما ذكرت تقارير إعلامية أن إحدى الطائرات الهندية سقطت على ملعب "راوالبندي" أثناء مباراة كريكيت، بينما تمكنت طائرة "هاروب"الهندية من تدمير نظام دفاع جوي صيني الصنع بالقرب من لاهور، من دون وقوع خسائر كبيرة. وتجدرالإشارة إلى أن نحو 80% من الأسلحة التي استخدمتها باكستان، كانت مستوردة من الصين.
وتشير التطورات الأخيرة إلى بروز الطائرات المسيّرة كأحد أبرز أسلحة العصر في ميدان الحروب الحديثة، وهو ما عكسته تجارب ميدانية في الحرب بين إسرائيل وإيران، والصراع الروسي–الأوكراني، وكذلك في المواجهات بين إسرائيل وحركة حماس. وقد اشترى الجيش الهندي طائرات مسيّرة من شركات خاصة بقيمة 2.95 مليار روبية هندية، حيث استُخدمت بنجاح طائرات قوية مثل "ناغاسترا-1" و "كاميكازي" أو"سويتش" خلال العمليات. وتسعى الهند تدريجياً إلى تعزيز قدراتها في مجال التصنيع الدفاعي المحلي داخل البلاد. وتم استخدام صواريخ سطح-جو المصنعة محليًا "مثل بيشورا" و"وأوسا-آي كيه"، لإسقاط الطائرات المسيّرة المعادية. ويشمل مفهوم الاكتفاء الذاتي الدفاعي امتلاك القدرات الكاملة لتصميم وتصنيع وتجميع المعدات والأنظمة الدفاعية داخل البلاد، مع تقليل الاعتماد إلى أدنى حد ممكن على الإمدادات الأجنبية. كانت الهند تاريخياً تعتمد بشكل كبير على استيراد التقنيات العسكرية من الخارج، بتكاليف مرتفعة جداً. لقد قامت الهند بتحديث أنظمة الأسلحة الخاصة بها لتشمل أسلحة متقدمة وأنظمة تسليح متطورة ومعقدة. وقد تضاعف الإنفاق العسكري أكثر من الضعف خلال العقد الماضي. وفي الواقع، هناك استعداد والتزام جادان لتعزيز القدرة الدفاعية الوطنية ومواصلة مسيرة التحول نحو مبادرة "آتمنيربهار بهارات".
إن سياسة إنتاج وترويج الصادرات الدفاعية لعام 2020م، والرؤية نحو تحقيق الاكتفاء الذاتي وزيادة الصادرات، بدأت تؤتي ثمارها تدريجياً من خلال نتائج إيجابية ملموسة. وقد تم إدخال مخصصات تمويل حكومية في مجالات مثل برامج Make-I، وصندوق تطوير التكنولوجيا، ومبادرة الابتكار من أجل التميز الدفاعي. ويُنفَّذ برنامج صندوق تطوير التكنولوجيا من قبل منظمة البحث والتطوير الدفاعي، التي تدعم جهود التطوير المحلي التي تقودها المؤسسات الصغيرة والمتوسطة والشركات الناشئة. وقد خُصص مبلغ 600 مليون روبية لهذا البرنامج في السنة المالية 2025–2026م. وتعمل حالياً أكثر من 500 شركة ناشئة ومؤسسة صغيرة ومتوسطة ضمن إطار مبادرة الابتكار من أجل التميز الدفاعي، مع تركيز على مشروعات ابتكارية في القطاع الدفاعي. وقد ساعدت هذه الخطوات الإيجابية في وصول صادرات الصناعات الدفاعية إلى مستوى قياسي بلغ 236.22 مليار روبية هندية في السنة المالية 2024–2025م، بزيادة قدرها 25.39 مليار روبية هندية أو ما نسبته 12.04% مقارنة بالسنة المالية 2023–2024م. ومن اللافت أن القطاع الخاص ساهم بما قيمته 152.33 مليار روبية هندية من إجمالي الإنتاج الدفاعي. وتشير التوقعات إلى أن هذا الرقم مرشح للارتفاع ليصل إلى نحو 500 مليار روبية هندية بحلول عام 2029م.
ووفقًا لتقرير للجنة برلمانية دفاعية صادر في ديسمبر 2024م، قد تم تصدير عناصر دفاعية إلى أكثر من 100 دولة حول العالم، وكانت منها "228 طائرة دورنيير"، ومدافع مدفعية متقدمة "عيار 155 ملم"، وصواريخ "براهموس" و"آكاش"، ومحاكيات رادار، ومحاكيات "دروف" للملاحة البحرية، وصواريخ بيناكا وغيرها. وقدطوّرت الهند قاذف صواريخ يدوي، يُعرف بنظام "إيسلا"، معتمدةً في ذلك على تكنولوجيا محلية. وتم تصميم المدفعية المضادة للطائرات، والطائرات المسيّرة، للتشويش والخداع والتدمير من خلال استخدام طيف الموجات الكهرومغناطيسية. وتُعدّ الحرب الإلكترونية من أكثر الأدوات استخداماً في تعطيل رادارات العدو وأنظمة الاستهداف، سواء على البر أو في الجو. وفي هذا الإطار، تعمل كلية ومركز الدفاع الجوي في غوبالبور بولاية "أوديشا" على تطوير المختبر الخاص بإنتاج طائرات مسيّرة متقدمة، وذلك عقب الضربة الجراحية داخل باكستان. وقد لعب هذا المركز دوراً محورياً في تزويد الجبهات الأمامية بالكوادر والمعدات خلال "عملية سِندور".
غير أن الهند لا تزال أكبر مستورد للسلاح على مستوى العالم، كما أفاد معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام. فالهند ما زالت تتحمل تكاليف باهظة لشراء الأسلحة المتقدمة من إسرائيل وروسيا وفرنسا. وقد لعب نظام الدفاع الجوي الروسي الصنع S-400، الذي أُعيدت تسميته إلى "سودرشَن تشاكرا"، دوراً محورياً في إسقاط الطائرات المسيّرة والصواريخ التي أُطلقت من باكستان. غير أنّ شراء التكنولوجيا ينطوي أحياناً على العديد من السلبيات، إذ غالباً ما لا يتم نقل التكنولوجيا إلى الهند. فعلى سبيل المثال، اشترت الهند في عام 1987م مروحيات سيكورسكي من شركة أغوستا ويستلاند الأمريكية، لكن الشركة لم تنقل التكنولوجيا، ومع إغلاقها لاحقاً أصبح من الصعب إجراء عمليات الإصلاح أو التحديث لهذه الطائرات مرتفعة التكلفة. ومع ذلك، فقد أنشأ مركز صيانة الطائرات البحرية في مدينة "كوتشين" مختبراً لإنتاج قطع غيار محلية تُستخدم في الطائرات القديمة وإعادتها إلى حالة صالحة للطيران. ومن الضروري اتخاذ خطوات مماثلة بالنسبة لطائرات "رافال" التي تم شراؤها مؤخراً، إذ يتعين حالياً استيراد قطع الغيار من فرنسا عند الحاجة إلى أي عمليات صيانة أو تحديث، بسبب غياب التكنولوجيا اللازمة محلياً. ومن هنا تبرز الحاجة إلى أن تتولى منظمة البحث والتطوير الدفاعي وغيرها من المؤسسات دور الريادة في تطوير تقنيات محلية ضمن إطار مبادرة "ميك إن إنديا" (اِصنع في الهند)، بما يعزز الاستقلالية الدفاعية ويحد من التبعية التكنولوجية للخارج.
اقرأ أيضًا:العالم العربي يتطلع إلى الهند في ظل أزمة غذائية متصاعدة
إن تطوير تكنولوجيا الحرب في الهند يستلزم زيادة إنفاقها الدفاعي في إطار مبادرة "ميك إن إنديا"، إذ يظلّ الميزان الدفاعي للهند أقل بكثير مقارنةً بما تنفقه كل من الصين والولايات المتحدة الأمريكية. فيجب على الهند زيادة ميزانيتها للبحث والتطوير في القطاع الدفاعي، حيث إنها تطور في الآونة الأخيرة تقنيات محلية مهمة. وقد ألقى حاليًا مستشار الأمن القومي أجيت دوفال كلمة أمام طلاب المعهد الهندي للتكنولوجيا في مدراس وأبرز فيها القدرات العسكرية الهندية والتقدم التكنولوجي المتنامي في تحييد التهديدات القادمة من باكستان، عبر "عملية سندور"، مؤكدًا عدم وقوع أي أضرار للممتلكات الهندية من هجمات الطائرات المسيّرة المعادية. وهذا يثبت نجاح التكنولوجيا الهندية في الظروف الصعبة.
* مسئول في الخدمة الإدارية الهندية، يعمل حاليًا بصفته سكرتيرًا في إدارة الإصلاحات الإدارية، والتدريب، والتقاعد، وشكاوى الجمهور