مجيب الرحمن*
أدّت الجاليات العربية المقيمة في مدن مثل حيدرآباد ومومباي في القرنين التاسع عشر والعشرين دورًا فاعلًا في النسيج الثقافي المتنوع لشبه القارة الهندية. ورغم قلة عددهم مقارنة بالسكان المحليين، فقد ساهموا بوضوح في مجالات التجارة، والتعليم، والفنون، وكان لهم دور بارز في تعزيز التبادل الثقافي بين العالم العربي والهند. ويستعرض هذا المقال أبرز هذه المساهمات مع التركيز على الأمثلة الحية والتفاعلات التي أثرت في الجانبين.
الجذور التاريخية
ترجع جذور وجود الجاليات العربية في حيدرآباد ومومباي إلى قرون مضت، حيث شكّلت هاتان المدينتان ملتقى للتجارة والثقافة. فقد استقطبت حيدرآباد، التي كانت مركزًا لحكم أسرة النظام (1724-1948)، علماء وتجارًا من الخليج العربي، لا سيما من اليمن وعُمان. وأما مومباي، فبحكم موقعها كميناء رئيس، جذبت تجارًا عربًا ساهموا في نسج علاقات اقتصادية وثقافية طويلة الأمد مع الهند.وهذه الجاليات، رغم صغر حجمها أسهمت في إنشاء شبكات تجارية وثقافية تربط الهند بالعالم العربي. وفي حيدرآباد، على سبيل المثال، كان التجار العرب من اليمن يعملون في تجارة اللؤلؤ والتوابل، بينما في مومباي، كان العرب يشتغلون في تجارة الأقمشة والسلع الفاخرة. ومهّدت هذه الأنشطة التجارية الطريق لتفاعلات ثقافية أعمق، حيث أصبحت الجاليات جسورًا لنقل الأفكار والفنون.
المساهمات الثقافية في حيدرآباد
من أبرز التأثيرات التي خلفتها الجالية اليمنية في حيدرآباد هو الحفاظ على اللغة العربية وتعليمها من خلال المدارس الدينية التي لا تزال قائمة حتى اليوم في منطقة بركاس. وقد امتد تأثيرهم أيضًا إلى المطبخ الحيدرآبادي، حيث أضحت أطباق مثل "المندي" و"الكبسة" جزءًا من مائدة المناسبات والمطاعم الشعبية.
وفي مجال الفنون، شاركت الجالية العربية في حيدرآباد في تطوير فن الخط العربي. ودعم حكام حيدرآباد الخطاطين العرب الذين زيّنوا المساجد والقصور بنقوش عربية، مثل تلك الموجودة في مسجد مكة بحيدرآباد. وهذه الأعمال الفنية لا تزال شاهدة على إبداع الجالية العربية وتأثيرها في تعزيز الجماليات الإسلامية في المدينة.
المساهمات الثقافية في مومباي
وفي مدينة بومباي (حاليا مومباي)، أدّت الجالية العربية، وخاصة التجار العمانيون واليمنيون، دورًا بارزًا في إثراء الحياة الثقافية. وكانت "بومباي" وقتذاك مركزًا تجاريًا مهما يستقطب التجار العرب منذ القرن التاسع عشر، الذين أسسوا أحياء تجارية مثل منطقة "دونغري"، التي كانت مركزًا للجالية العربية. وهنا، أسهم العرب في إنشاء أسواق تجارية، مثل سوق التوابل في دونغري، التي جمعت بين المنتجات الهندية والعربية، مما عزّز التفاعل الثقافي.
ومن الناحية الأدبية، كان للجالية العربية في مومباي دور في نشر الأدب العربي من خلال دعم المطبوعات العربية. وعلى سبيل المثال، ساهمت الجالية في تمويل طباعة كتب دينية وأدبية باللغة العربية في مطابع مومباي خلال القرن العشرين، مما ساعد في الحفاظ على التراث العربي بين أفراد الجالية والمسلمين الهنود، وإن هذه صفحة مشرقة في تاريخ التبادل الثقافي بين الهند والعالم العربي ويجب الكشف عن تفاصيله التي سوف تلقي الضوء على مساهمات العرب في نشر الثقافة العربية في الهند.
وساهمت الجالية العربية في مومباي، لا سيما من اليمن وعُمان، بشكل لافت في طباعة الكتب العربية خلال القرنين التاسع عشر والعشرين، مما أسهم في الحفاظ على التراث العربي الإسلامي ونشره في شبه القارة الهندية وخارجها. ومن أبرز الأمثلة على هذه المساهمات تأسيس المطبعة الخيرية في مومباي (1882م)، والتي كانت من أوائل المطابع التي استخدمت الطباعة الحجرية (الليثوغرافية) لطباعة الكتب العربية، بدعم من تجار عرب ومسلمين هنود. وقد قامت هذه المطبعة بطباعة العديد من الكتب الدينية الكلاسيكية مثل "رياض الصالحين" للإمام النووي و"الشمائل المحمدية" للإمام الترمذي، بالإضافة إلى نسخ من المصحف الشريف، التي وُزّعت بين المسلمين في الهند وشرق إفريقيا.
كما شهدت مومباي طباعة عدد من مؤلفات علماء حضرموت، وعلى رأسهم الإمام عبد الله بن علوي الحداد، حيث نُشرت كتبه مثل "النية والصدق" و"الرسالة الجامعة" بدعم من الجالية الحضرمية التي كانت تسعى إلى نشر تعاليمها الدينية والثقافية. وامتدت هذه الجهود أيضًا إلى طباعة كتب المذهب الشافعي، الذي ينتمي إليه معظم أفراد الجالية، مثل "المنهاج" للإمام النووي و"عمدة السالك" لابن النقيب، وهي كتب أساسية في الفقه الإسلامي، وقد تم توزيعها في الهند وسريلانكا وإندونيسيا حيث توجد روابط ثقافية وتجارية تاريخية مع العرب.
وإضافة إلى ذلك، ظهرت في مومباي بعض المجلات والدوريات التي قامت بدور في نشر الثقافة العربية، مثل مجلة "النجاح" (1920م)، التي رغم أنها كانت تصدر باللغة الأردية، فقد نشرت مقالات بالعربية وشاركت الجالية اليمنية في دعمها ماليًا وعلميًا، وبالتالي ساهمت في التواصل الثقافي بين العرب والمسلمين في الهند. وبفضل هذه الجهود، تحوّلت مومباي في بدايات القرن العشرين إلى مركز حيوي لطباعة وتوزيع الكتب العربية، مما يعكس الدور الثقافي العميق الذي أدّته الجالية العربية في الحفاظ على الهوية الدينية واللغوية للأجيال الجديدة في المهجر، وأيضًا في بناء جسور معرفية بين العالم العربي وشبه القارة الهندية.
كما أسهمت الجالية العربية في إثراء الثقافة الهندية من خلال الفنون الأدائية. وفي أوائل القرن العشرين، كان التجار العرب في مومباي ينظمون أمسيات شعرية وموسيقية تجمع بين الشعر العربي التقليدي والموسيقى الهندية، مما أدى إلى خلق أشكال فنية هجينة. وعلى سبيل المثال، تأثرت بعض الألحان في السينما الهندية المبكرة بإيقاعات عربية، خاصة في الأفلام التي تناولت مواضيع إسلامية.
التأثير المتبادل: جسر ثقافي
لم تقتصر مساهمات الجاليات العربية في حيدرآباد ومومباي على إثراء الثقافة العربية، بل امتدت لتشمل الثقافة الهندية. ففي حيدرآباد، أدّى التفاعل بين الجالية العربية والمجتمع المحلي إلى ظهور أشكال ثقافية مختلطة، مثل الشعر الأردي الذي تأثّر بالبلاغة العربية. كما أن وجود العرب في الأسواق التجارية عزّز تبادل الأفكار بين التجار الهنود والعرب، مما أدّى إلى إدخال مفاهيم تجارية جديدة مستوحاة من النماذج العربية.
وفي مومباي، كان تأثير الجالية العربية واضحًا في السينما الهندية. فقد استلهمت أفلام بوليوود المبكرة، مثل تلك التي أنتجت في الثلاثينيات والأربعينيات، عناصر من القصص العربية، مثل حكايات "ألف ليلة وليلة"، التي وجدت صدى في أفلام مثل علاء الدين (1940م). وهذا التأثير المتبادل ساعد في تقديم الثقافة العربية للجمهور الهندي بطريقة جذابة.
ورغم التحديات التي واجهتها الجاليات العربية، سواء في الحفاظ على لغتها وثقافتها أو في ظل العولمة والتغيرات الاجتماعية، فإن تأثيرها الثقافي لا يزال قائمًا. وهذه الجاليات تمثل نموذجًا حيًا لتلاقح الثقافات والتفاعل الخلاق الذي يثري المجتمعات، ويستحق مزيدًا من البحث والتوثيق.
اقرأ أيضًا: من طفل هندي يتعلم العربية في مدارس سعودية إلى مستشار إعلامي... حوار خاص مع سعود حافظ
ورغم قلة عدد الجاليات العربية في حيدرآباد ومومباي، فقد تركت أثرًا ثقافيًا واضحًا من خلال مساهماتها في تعليم اللغة العربية، وتعزيز المطبخ المحلي، ودورها في الفنون والتجارة، مما أضاف بُعدًا عربيًا للهوية الثقافية الهندية. ومع تنامي العلاقات بين الهند والعالم العربي، تزداد أهمية دراسة هذه الجاليات، باعتبارها نموذجًا لتفاعل الثقافات ورافدًا لفهم أعمق بين الشعوب، وهو ما تدعمه مؤسسات أكاديمية في الجانبين.
*أ. د. مجيب الرحمن هو رئيس مركز الدراسات العربية والإفريقية بجامعة جواهر لال نهرو، نيودلهي