حصة بنت زيد المفرح*
في ظل تطور مناهج الدراسات الثقافية المعاصرة، لم يعد الطعام ضرورة يومية، وحاجة بيولوجية، بل غدا نصًا ثقافيًا يمكن تحليله وتأويله كما نفعل مع الأدب، أو العمارة، أو اللغة. والثقافة هنا لا تفهم بوصفها فنونًا، أو عادات، أو ممارسات فحسب، بل بوصفها نظامًا للتمثيلات، أي ما يحمله الناس من تصورات، ومعانٍ، وهويات، وكل مظهر ثقافي يعد قابلًا للتحليل، وصالحًا للتأويل من منظورات الأبعاد الثقافية نفسها.
وفي (دراسات الطعام/ Food Studies) وهو حقل متعدد التخصصات، يلتقي فيه الأدب، والإنثروبولوجيا، والتاريخ، وعلم الاجتماع، والفلسفة، لا ينظر إلى الطعام بوصفه حاجة بيولوجية فحسب، بل بوصفه فعلًا ثقافيًا مشحونًا بالرموز، وله علاقة وثيقة بالهوية والانتماء، كما لا تغفل هذه الدراسات أثر الهجرة، أو الاستعمار، أو التداخل الثقافي في بناء هوية ثقافية متداخلة. والطعام في هذا الحقل "ليس ما نأكله فقط، بل هو كيف نكون معه، ومن نكون، ومع من نكون".
وفي زمن تتسارع فيه خطوات العولمة، وتتمازج فيه الثقافات حتى على موائد الشعوب والثقافات المختلفة، لم يعد الطعام وجبات يومية، بل بات يُقرأ بوصفه نصًا ثقافيًا حيًا، يحمل في مكوناته ما لا تحمله الكتب من تواريخ صامتة، وهويات متشابكة. وفي العلاقة الممتدة بين المملكة العربية السعودية وجمهورية الهند، يبدو الطعام نصًا متحركًا يعيد تشكيل الذات والآخر، ويجعل من المائدة حقلًا لتبادل غير معلن للهويات.
وفي السياق السعودي، يعد التفاعل مع الثقافة الهندية في مجال الطعام نموذجًا حيًا لما تعرضه (دراسات الطعام) لهوية الطعم بالتبادل العابر بين الثقافات. ولعل جزءًا من سردية العلاقة بين السعودية والهند - ثقافيًا- يرتبط بالطعام؛ إذ تمثل نموذجًا ثريًا لتفاعل طويل الأمد، حيث شكل الطعام- بوصفه أداء ثقافيًا- جسرًا خفيًا بين الثقافتين؛ فهو هنا وثيقة تفاعل صامتة، ومرآة لهوية هجينة، لا تعترف بالحدود، ولا تلتزم بالمسافات البعيدة.
ويمكن تحليل انتقال الوصفات، وتغيير الذائقة، وكيفية تبني المجتمع السعودي لمكونات الطبخ الهندي، أو طرائقه، ليس بوصفه تقليدًا، بل بوصفه تعبيرًا عن مذاق مألوف يشارك في تكوين الهوية اليومية. وتحول هذا الطعام من كونه طعامًا وافدًا إلى أطباق عائلية، وله حضوره في مطاعم ومناسبات كثيرة، هذا التحول، لا يعكس التغيير في التفضيلات فقط، بل يعكس تحولًا في موازين التقبل الثقافي، وصعود الذائقة الهجينة بوصفها شكلًا جديدًا من الهوية.
وهذه الأطباق هندية الأصل التي أصبحت جزءًا من المائدة السعودية في مفهومها الأوسع، ليست مجرد وصفات دخيلة، بل هي دليل على حركة ثقافية أفقية غير مركزية، تعكس تقاطعات الطبخ، والتاريخ، والعيش المشترك، وتمثل أرشيفًا حسيًا تحفظ فيه العلاقات التاريخية والشعبية بين البلدين. وهذا ما يجعل الطعام أداة تفكيك، وإعادة بناء للهوية، بما يتجاوز التصنيفات القومية، أو الحدود الجغرافية.
ومنذ بدايات الرحلات والهجرات بين الهند ودول الخليج عامة، وخاصة في ظل التجارة، أو المواسم الدينية، أو دخول العمالة، دخلت التوابل الهندية إلى الأسواق المحلية، واستقرت تدريجيًا في وصفات المطبخ السعودي. ووفقًا لنظرية (الهجنة الثقافية) كما قدّمها (هومي بابا) فإن التداخل بين الثقافات لا يحدث دائمًا بشكل مباشر، بل في فضاءات وسيطة تنتج ثقافة جديدة لا تنتمي بالكامل إلى أي طرف، فعوامل السفر والرحلات إلى الهند، ثم استقبال مواطنيها للعمل، وفي مسارات الطبخ خاصة، نقلت أسلوبًا في الحياة، وذوقًا، وطقسًا يوميًا لا يستهان بتأثيره.
وتشكل التوابل جزءًا رئيسًا من مكونات الطعام الهندي بتاريخها العريق، وتنوع زراعتها، وتعدد استخداماتها في الطعام وخارجه، وهي البلاد المعروفة بـ (أرض التوابل). ويشير الباحثون إلى علاقة وثيقة بين تمثيل التوابل ثروة قومية للهند والأطماع الاستعمارية التي رأت فيها أدوات للسيطرة، وضرورة لتحقيق التجارة العالمية، ووسيلة لاستغلال المزارعين لزرعها ثم تحويلها إلى الأسواق الأجنبية دون مقابل، أو بمقابل زهيد. وهو ما يؤسس لبعد ليس تجاريًا مجردًا، بل هو سردية معقدة من الاستغلال، والهيمنة الثقافية والاجتماعية مدفوعة بالسيطرة على التوابل وتجارتها العالمية.
وبينما كانت التوابل الهندية في التاريخ الاستعماري من المكونات التي نهبت نحو الغرب، فإن إعادتها إلى الشرق كان فعلًا عكسيًا، ليس على مستوى سياسي، وتاريخي، واقتصادي يتعلق باستعادة السيادة على الإنتاج والتجارة فحسب، وإنما في بعد ثقافي، يعيد رسم خارطة الطريق الشرقية، ويسترجع للتوابل مكانتها بوصفها جزءًا من الهوية الغذائية، والذاكرة الحضارية للشرق، ورمزًا للذاكرة الجمعية، ومقاومة لمحو النكهة الأصلية، وتجسيدًا لعلاقة الإنسان بالمكان والذاكرة.
وداخل منظومة الشرق نفسه حين نتحدث عن ثقافتين فرعيتين فيه، فإنه عندما يشير (بيير بورديو) وهو من أهم المنظرين في (دراسات الطعام)، إلى أن الذوق ليس محايدًا فإنه يأخذه من مسار شخصي إلى مسار جماعي يعكس الانتماء الطبقي والثقافي، فالنكهات الهندية بهذه التوابل المميزة أضحت اليوم مكونات أصيلة في الطبخ اليومي، ولم تعد نكهات دخيلة، وهكذا تصبح النكهة فعل انتماء، وسردًا مستترًا لعلاقة ثقافية طويلة المدى، وعبورًا ناعمًا بين ثقافتين، وتعبيرًا عن هوية مرنة تتسع للآخر. ويمكن أن تعيد المائدة في ظل ذلك، العلاقة بين الناس، وطرق تعايشهم، وكيفية تشاركهم في الذوق نفسه، وكيف تصبح نكهات الآخر جزءًا أصيلًا من طقوس الطبخ والمطبخ.
كما أن الطعام أداة ترجمة ثقافية، ليست بين الشرق والغرب فحسب، بل بين الأطياف المختلفة في الثقافة الكبرى الواحدة (الثقافة الشرقية)، وبه يمكن قراءة هوية الآخر بالحواس، ومعه تتحول المائدة إلى فضاء تواصل يختصر مسافات التاريخ والجغرافيا واللغة؛ فما نراه اليوم من انتشار مأكولات مثل: البرياني، والسمبوسة، والدال، والتندوري، والشباتي، والماسالا في المناسبات السعودية، وفي الأطباق اليومية، ليس تقليدًا، بل يمثل تحولًا ذوقيًا اجتماعيًا، فقد أصبح الطعام الهندي جزءًا من الهوية الذوقية السعودية، وبهذا المعنى؛ فالطعام ينتج هوية هجينة، لا تنفي الأصل، بل تعترف به، وتحوله إلى جزء من الذات، وهذه الأطعمة أصبحت مألوفة كثيرًا، والأمر لا يتعلق بنقل للوصفة، بل بترسيخ لذوق الآخر.
اقرأ أيضًا: الاستثمار في السياحة:فرص هندية وسعودية للتنمية المشتركة
وهكذا، يكتب الطعام لغة ثقافية لا تخضع إلا للغة الذوق، والعيش المشترك، والوثيقة الثقافية الحية التي تجعله عابرًا للحدود، ومؤسسًا لفضاء الهجنة الثقافية التي تجسدت منذ قرون في التقاء الشرق بالغرب، ثم تفرعت داخل الشرق نفسه؛ لتؤكد أن الأطعمة ليست وصفات محصورة في حدود جغرافية، بل هي نصوص متحركة تعيد صناعة الهويات، وتفتح حوارًا بين الثقافات، ويغدو الطعام ترجمة ثقافية عابرة للحدود، بدمج الأصلي بالوافد، وإعادة تعريف الهوية لا بوصفها جوهرًا ثابتًا، بل عملية مستمرة من الأخذ والعطاء، وذاكرة مشتركة تصوغ علاقة الإنسان بالآخر في عالم متغير ومتجدد.
*أستاذة في جامعة الملك سعود بالرياض، المملكة العربية السعودية