هل يمكن أن تكون ديوبند جسرًا لإصلاح طالبان؟

21-10-2025  آخر تحديث   | 21-10-2025 نشر في   |  أحمد      بواسطة | Aditi Bhaduri 
هل يمكن أن تكون ديوبند جسرًا لإصلاح طالبان؟
هل يمكن أن تكون ديوبند جسرًا لإصلاح طالبان؟

 


أديتي بهادوري*

تُعدّ زيارة وزير الخارجية الأفغاني، أمير خان متقي، إلى الهند حدثًا ذا دلالة رمزية عميقة، خصوصًا زيارته لدار العلوم في ديوبند، التي تُعدّ أكبر مؤسسة تعليمية إسلامية في آسيا منذ تأسيسها عام 1866م. ومن اللافت أن أحد مبعوثي طالبان إلى كازاخستان، الذي التقيت به في مايو الماضي بمدينة أستانا، عبّر عن رغبته الشديدة في الزيارة إلى الهند، إذ كان من أحلامه زيارة دار العلوم ديوبند، منبع الإلهام الروحي والفكري لحركة طالبان.

وعليه، فإن زيارة متقي لم تكن مفاجئة؛ فمعظم أعضاء حركة طالبان تلقّوا تعليمهم في دار العلوم حقانية بباكستان، وهي مؤسسة تتبنى المناهج الدينية التي نشأت في ديوبند قبل قرون. وبذلك، فإن التيار الفكري الذي ينتمي إليه طالبان مرتبط ارتباطًا وثيقًا بمدرسة ديوبند التي تمثل مرجعية دينية وفكرية لهم.

وإن الحشود التي تجمّعت في ديوبند، وما أظهرته من حفاوة واحترام للوفد الزائر، تكشف عن المكانة الرفيعة التي يحظى بها هذا المعهد الديني ليس لدى حركة طالبان فقط، بل لدى قطاعات واسعة من الشعب الأفغاني أيضًا. وتُبرز هذه المكانة الدور المحتمل الذي يمكن أن تؤديه ديوبند كأداة جديدة من أدوات القوة الناعمة للهند. ويمكن أن تكون دار العلوم ديوبند جسرًا للحوار والتفاهم مع حركة طالبان، ومع دول إسلامية أخرى.

وقام محمد قاسم النانوتوي ورشيد أحمد الكنغوهي بتأسيس دار العلوم ديوبند برؤية إصلاحية تهدف إلى إحياء النهضة الدينية على أساس الفقه الحنفي والتزكية الروحية. فسعت المؤسسة إلى حماية الإرث العلمي والديني الإسلامي في مرحلة شهدت تآكلًا ثقافيًا تحت وطأة الاستعمار، دون الانزلاق إلى تسييس الخطاب الديني أو توجيهه لأغراض سياسية. وبذلك أرست المؤسسة منذ نشأتها مشروعًا فكريًا إصلاحيًا يجمع بين الأصالة والاجتهاد، هدفه تجديد الوعي الديني وصون الهوية الإسلامية عبر العلم والانضباط الأخلاقي. وجاءت هذه المبادرة في مرحلة تاريخية حرجة، إذ كانت الهيمنة الإسلامية في شبه القارة الهندية تشهد تراجعًا حادًا بعد سقوط الحكم المغولي. لقد كانت ديوبند بذلك أكثر من مجرد مؤسسة تعليمية؛ كانت حركة فكرية ونهضوية هدفت إلى صون العقيدة الإسلامية في زمن الانكسار، وإحياء روح التضامن الديني بين المسلمين في الهند والعالم الإسلامي. ورأى العلماء أن تراجع المسلمين سببه ابتعادهم عن صفاء الإسلام الأصلي، واختلاط الدين بعادات وثقافات أجنبية دخيلة لا تمت إليه بصلة، بكونها بدعات.

وأُنشئت دار العلوم ديوبندبهدفٍ واحد، هو التوجيه الديني الصحيح وفق منهج قائم على الصفاء العقدي والالتزام الصارم بالتقاليد الإسلامية الخالصة. وإنها لا تحتفل بمولد النبي محمد ﷺ، ولا تعترف إلا بعيدين دينيين هما عيد الفطر وعيد الأضحى. فلم تشكل ديوبند مجرد مؤسسة دينية، بل كانت أيضًا ردًا فكريًا وسياسيًا على الاستعمار البريطاني.

وفي عام 2010م، قمت بزيارة دار العلوم ديوبند لإعداد تقرير عنها في سياق أحداث 11 سبتمبر وصعود حركة طالبان التي تلقّى معظم أعضائها تعليمهم في المدرسة الديوبندية بباكستان. في ذلك الوقت، كان عدد الطلاب المسجّلين في دار العلوم يقارب 3500 طالب، وقد خرّجت المدرسة منذ تأسيسها أكثر من مئة ألف طالب. ويتخرج منها سنويًا ما بين 800 إلى 1000 طالب، ينشرون فكرها وتعاليمها في شتى أنحاء الهند، بل ويتجاوز تأثيرها الحدود ليصل إلى دول أخرى.

ومن أبرز إسهامات دار العلوم ديوبند في خدمة المجتمع المسلم أنها قدّمت تعليمًا مجانيًا شاملًا لطلابها، إلى جانب الإقامة والطعام والرعاية الصحية دون مقابل. وعلى الرغم من أن مباني المدرسة تتّسم بعظمة التصميم واتساع المساحة ، فإن غرف السكن الخاصة بالطلاب كانت ضيّقة ومتواضعة. واستقطبت ديوبند طلابًا من مختلف أنحاء الهند، خصوصًا من العائلات محدودة الدخل، كما جذبت أيضًا طلبة من بنغلاديش وأفغانستان وعدد من الدول الإسلامية الأخرى.

ويتكوّن المنهج الدراسي في دار العلوم ديوبند من ثلاث مراحل رئيسية. وتُخصَّص السنوات الخمس الأولى منها للتعليم الأساسي، الذي يشمل دراسة العلوم الاجتماعية واللغة العربية والهندية والإنجليزية والأردية، وهي اللغة المعتمدة للتدريس في المدرسة. وفي المرحلة الثانية، يُركَّز على دراسة الفقه الإسلامي بعمق، وتستمر هذه المرحلة لمدة سبع سنوات تنتهي بالحصول على شهادة التخرّج. ثم يُمنح الطلاب خيار التخصّص لسنتين إضافيتين في أحد المجالات المتقدّمة مثل الفقه الإسلامي أو الأدب العربي أو المنطق. وقد اتّسع تأثير خريجي ديوبند جغرافيًا وفكريًا؛ إذ يعمل العديد منهم في أماكن بعيدة مثل المدينة المنوّرة ومانشستر.

وأوضح عدنان عثماني، مساعد المدير، أثناء غياب المدير مرغوب الرحمن، أن منهج دار العلوم ديوبند أصبح نموذجًا يحتذى به في الهند وخارجها، إذ تعتمد عليه العديد من المدارس الإسلامية، مشيرًا إلى أن ديوبند كانت أول مؤسسة دينية بهذا الحجم في جنوب آسيا، وهو ما جعلها رائدة في مجال التعليم الشرعي المنهجي. وانتشر خريجو ديوبند داخل الهند وخارجها، فأسس بعضهم مدارس جديدة على نهجها، بينما عمل آخرون في مؤسسات قائمة وطوّروها، مما وسّع تأثير ديوبند ليصبح تيارًا فكريًا وتعليميًا عالميًا يواصل تراثها الديني والعلمي.

وكانت الحياة الدراسية في دار العلوم ديوبند منظمة وفق نظام صارم. فالمدرسة تحظر التعليم المختلط، ولا تضم جناحًا مخصصًا للنساء أو موظفات إناث. ويبدأ اليوم الدراسي في ديوبند عند الساعة الرابعة فجرًا بأداء صلاة الفجر، تليها الحصص الدراسية التي تستمر حتى العاشرة والنصف صباحًا. وعند الظهر يُقرَع الجرس معلنًا وقت وجبة الغداء، يعقبها فترة راحة قصيرة قبل أداء صلاة العصر في الثانية بعد الظهر، ثم تبدأ المرحلة الثانية من الدراسة. وفي الخامسة مساءً تُقام صلاة المغرب يتبعها العشاء، ثم صلاة العشاء في السابعة، وبعدها تُخصَّص فترة للمناقشات والمناظرات الفكرية بين الطلاب. تُختتم الأنشطة اليومية بأداء آخر الصلوات عند التاسعة مساءً، ثم يعود الطلاب إلى غرفهم للنوم استعدادًا ليوم جديد من الدراسة والعبادة.

ولم يكن في دار العلوم ديوبند أي مجال للترفيه أو الأنشطة غير الدراسية؛ إذ لا يُسمح للطلاب بممارسة الألعاب أو الاستماع إلى الموسيقى، كما يُحظر مشاهدة التلفاز بشكل قاطع. ومع ذلك، بدأت رياح التغيير تهبّ على ديوبند في السنوات الأخيرة، نتيجة تزايد الاهتمام الدولي ومتابعة وسائل الإعلام العالمية لأنشطتها وتأثيرها. وهذا الاهتمام دفع إدارة المدرسة إلى إعادة النظر في بعض جوانب نظامها وبرامجها، وإن بقي المنهج الأساسي في الدراسات الإسلامية ثابتًا دون تعديل.

وفي عام 2001م، أطلقت دار العلوم ديوبند برنامجًا لتعليم اللغة الإنجليزية، بحيث يدرسها الطلاب لمدة عامين فقط، لكنها كانت كافية لتمكين بعض الخريجين من الالتحاق بمؤسسات تعليمية أخرى بعد التخرج. وفي عام 2000م، أُنشئ قسم لتعليم الحاسوب بإشراف عبد الرحيم، وهو أحد خريجي ديوبند نفسه. وقدّم هذا القسم دورة مدتها عام واحد في مهارات النشر المكتبي واستخدام برامج مثل فوتوشوب وكوريل درو وبيج ميكر، بالإضافة إلى تعلّم استخدام الإنترنت.

وأدّى ما عُرف بـ "الحرب على الإرهاب" إلى زيادة الاهتمام الإعلامي العالمي بمدرسة دار العلوم ديوبند، وهو ما دفع إدارتها إلى تأسيس قسم لتدريس الصحافة والإعلام. وأصبح بإمكان الطلاب، بعد إتمام البرنامج الأساسي في الفقه الإسلامي لمدة سبع سنوات، الالتحاق بدراسة الصحافة لمدة عامين إضافيين. ويمثل هذا التوجّه تحولًا مهمًا في رؤية ديوبند التعليمية، إذ يتيح لطلابها خيارات مهنية أوسع تتجاوز الأدوار التقليدية كالعلماء والفقهاء، ليدخلوا مجالات جديدة مثل الإعلام والكتابة والتواصل العام.

وكتب الصحفي جون محمد بات، وهو عالم إسلامي ومذيع بارز يُعدّ أول غربي يتخرّج من دار العلوم ديوبند في ثمانينيات القرن الماضي والمقيم حاليًا في أفغانستان، تعليقًا عقب زيارة أمير خان متقي إلى الهند، وقال فيه: "يجب أن تتاح فرص مهنية لخريجي المدارس الدينية. فهذه الفرص — الأكاديمية والمهنية — موجودة بالفعل في الهند. ومن مزايا تعزيز العلاقات بين أفغانستان والهند أن مثل هذه الفرص يمكن أن تنتقل إلى أفغانستان أيضًا، وهو ما سيحقق فوائد عديدة، إذ سيتمكن خريجو المدارس الدينية من الحصول على دخول مجزية في مجالات متعددة".

ويمكن أن تستفيد أفغانستان من التجربة التعليمية الهندية، إذ بات بإمكان مدارسها الدينية، خاصة في ظل تولّي حركة طالبان ذات الجذور الديوبندية الحكم، أن تعتمد النموذج التعليمي الديوبندي وتطبّقه محليًا بما يسهم في تطوير التعليم الديني داخل البلاد. ومع ذلك، يمكن أن يمتد دور دار العلوم  إلى ما هو أبعد من كونها مؤسسة دينية تعليمية. فعلى الرغم من أن العديد من المدارس الدينية خارج الهند، مثل مدرسة حقانية في باكستان، اعتمدت منهج ديوبند، فإنها اكتسبت سمعة سيئة كمراكز لتغذية الفكر الجهادي.

وأما ديوبند نفسها، فرغم التزامها الصارم بالتقاليد الإسلامية، فقد تميّزت بموقفها الواضح ضد التطرف والإرهاب، بل ابتعدت عن العمل السياسي تمامًا، وهو قرار اتخذته عن وعي منذ ما قبل استقلال الهند، وكانت من أبرز الأصوات المناهضة لتقسيم الهند.

وفي وقت لاحق، أصدرت دار العلوم ديوبند عام 2008م فتوى رسمية تدين الإرهاب بجميع أشكاله عقب تصاعد الجدل العالمي حول قضية الإرهاب.وأكدت فيها أن الفوضى وسفك الدماء وقتل الأبرياء تُعد جرائم لا إنسانية في الإسلام، مؤكدة موقفها الثابت الرافض للعنف والتطرف. ووقّع نحو 60 ألف عالم ديني على الفتوى، بحسب تقديرات وسائل الإعلام.

وتحظى دار العلوم ديوبند بمكانة دينية وعلمية مرموقة تجعل رأيها محل تقدير واسع واحترام كبير داخل الهند وخارجها. فبفضل سلطتها الشرعية والعلمية، كثيرًا ما تُطلب فتاواها وآراؤها في قضايا متنوعة تمسّ حياة المسلمين اليومية، مثل مسألة ذبح الأبقار، والطلاق الثلاث، وجواز صلاة الرجال والنساء معًا في المسجد. ونظرًا للعدد الكبير من الأسئلة والاستفسارات التي تَرِد إلى المؤسسة من الأفراد والهيئات الدينية والاجتماعية، قامت ديوبند بإنشاء قسم خاص مخصص للإفتاء يُعنى ببحث هذه القضايا وإصدار الرأي الشرعي فيها وفق منهج المدرسة الفقهي.

ويمكن أن تلعب دار العلوم ديوبند دورًا محوريًا في إعادة توجيه طالبان فكريًا وفصلها دينيًا عن التأثير الباكستاني، من خلال ترسيخ مبدأ الفصل بين السياسة والدين، وهو النهج الذي تميّزت به ديوبند ويمكن أن تنقله إلى أفغانستان ضمن مسار أكثر اعتدالًا وتعاونًا مع الهند.

اقرأ أيضًا: زيارة متقي إلى ديوبند: محاولة لإعادة تشكيل الصورة والانفتاح على الدبلوماسية الدينية

وتمثل دار العلوم ديوبند نموذجًا للإسلام الهندي المعتدل، ويمكن من خلال تأثيرها الديني أن تسهم في تقارب الهند وأفغانستان. فمكانتها تجعل فتاواها مؤثرة لدى طالبان، واعتمادها نهجًا تقدّميًا قد يساعد في إصلاح المجتمع الأفغاني ويعزز دورها كمؤسسة إسلامية رائدة تجمع بين الأصالة والتجديد.

 

قصص مقترحة