الثقافة الهندية والعمانية بين التأثير والتأثر

Story by  آواز دي وايس | Posted by  M Alam | Date 24-04-2024
العلاقات الثقافية بين الهند وعمان
العلاقات الثقافية بين الهند وعمان

 

أ.د. رضوان الرحمن

ربط موقع الهند الجغرافي والتجارة البحرية عبر البحر العربي الهنود مع أشقائها العرب ولا سيما سكان سلطنة عمان ارتباطًا وثيقًا وكتب عن ذلك المؤرخون من كلا البلدين. وهذه العلاقات لم تكن مبنية على التجارة والاقتصاد فحسب، بل كانت مؤسسة على ارتباطات حضارية استمرت منذ عدة قرون. وبما أن الهند كانت قريبة من سلطنة عمان جغرافيًا، اختلف إليها الملاحون والتجار العمانيون كما سافر إلى سلطنة عمان التجار الهنود بكثرة وبنوا مستودعات على سواحلها ووظّفوا مسؤولين عمانيين لترويج تجارتهم في السلع الهندية، ولكن تم تأسيس هذه العلاقات القوية بسبب سيادة الأمن والاستقرار في كلتا المنطقتين. فتكثيف التعاملات على عدة مستويات بين البلدين تولد عن تأثيرات حضارية متبادلة بين الطرفين عبر الزمان. وتقدم المصادر الكلاسيكية والحديثة أدلة على وجود العديد من مظاهر النشاط التجاري والثقافي بين عمان والعالم الخارجي. ولكن ظهور الإسلام والفتوحات الإسلامية وحركات هجرة الهنود والعمانيين أدت إلى مزيد من التأثير والتأثر في ثقافة المنطقتين وتوثيق العلاقات بين الشعبين.   

وارتبطت الهند منذ عصور تاريخية مبكرة بسبب موقعها الجغرافي على سواحل البحر العربي بالعديد من دول الخليج العربي ولا سيما سلطنة عمان. فتبادل العمانيون والهنود عناصر عديدة من ثقافة بعضهما البعض وساهموا في نشوء الثقافة الساحلية التي تجمع بينهما العديد من السمات المشتركة بفضل الدور العماني، واضطلاع العمانيين بدور الوسيط التجاري بين موانئ الخليج والجزيرة العربية وموانئ المحيط الهندي وموانئ البحر الأحمر، مما أدى إلى ازدهار العديد من الموانئ العمانية مثل ميناء سمهرم وميناء عمان، حيث أصبحا مراكز مهمة لتجارة العبور (الترانزيت) وتخزين السلع المنقولة بالبحر عبر هذه الموانئ. وتشير هذه المصادر أيضًا إلى العديد من مظاهر النشاط التجاري بين عمان والعالم الخارجي، حيث أشارت النصوص السومرية إلى بلاد مجان كمصدر رئيس للعديد من السلع؛ وفي مقدمتها النحاس وأنواع من الأحجار الكريمة. كما أكدت النصوص السومرية على ممارسة بلاد مجان للوساطة التجارية بين الهند وبلاد الرافدين وذلك نظرًا لاقتصار تجارة بلاد الهند في التعامل مع دلمون ومجان فقط في أواخر الألفية الثالثة قبل الميلاد، فكانت سفن مجان هي التي تقوم بمهمة نقل وتوفير ما تحتاج إليه بلاد الرافدين من منتجات وسلع مجان ووادي السند، حيث تولى أهل مجان مهمة الوساطة التجارية بين وادي السند وبلاد الرافدين.

التواصل الحضاري الهندي-العماني

الهند من أكثر المناطق التي ارتادها العمانيون منذ عصور تاريخية مبكرة بحكم قربها الجغرافي لكلا البلدين، كما ساهمتهما حركة الرياح الموسمية في تسيير الرحلات التجارية المنتظمة بينهما، حيث يعود التواصل التاريخي والحضاري الذي تم بين الطرفين، وفقًا لما أشارت إليه النصوص السومرية والأكادية والتي كشفت عن وجود علاقات تاريخية بين بلاد مجان وملوخا القديمة الواقعة في حوض السند، كما أوردت نصوص لارسا التي دونت في المرحلة التي أعقبت انهيار مملكة أور الثالثة لائحة من السلع والمبادلات التجارية بين عمان والهند.

وكانت الهند للعمانيين بمثابة السوق المفتوحة، حيث يصدّرون إليها بضائع مثل اللؤلؤ والخيول العربية واللبان والتمور والليمون من مناطق الجزيرة العربية، ويستوردون منها من سلع الهند كالأخشاب والصندل والعود والمسك والعنبر والعاج والتوابل والأحجار الكريمة. وحظي هذا النشاط التجاري بالتشجيع من قبل أمراء بعض المناطق الهندية الذين شجّعوا التجارة مع العمانيين، بفضل أخلاقهم الفاضلة والتزامهم في معاملاتهم وصفقاتهم التجارية. واستمرت التجارة المتبادلة وتكثفت على مر العصور بسبب سيادة الأمن والاستقرار في المنطقة التي تسهم في تنميتها، كما ساهمت العلاقات التجارية في تكوين العلاقات السياسية والروابط الثقافية والاجتماعية التي نتجت عن موجات الهجرة البشرية التي شهدتها المنطقتان فيما بينهما منذ أقدم العصور.

إسهام العمانيين في نشر الحضارة العربية في شبه القارة الهندية

تشير النصوص التاريخية إلى أقدم جالية عربية استقرت بالهند قرب نهر الهندوس أي السند وأطلق عليها الهنود اسم عربتيه أو عربتاك، ويرجح الباحثون بأن يكون معظم أفراد هذا المجتمع من العمانيين الذين استوطنوا في الهند في العصور قبل الميلاد. وشهدت عمان هجرة الهنود الذين استقروا في مناطق الزط والأحامرة والأساورة والبياسرة. واندمجوا مع القبائل التي كانت تسكن في عمان آنذاك.  وهكذا يتبين لنا مدى إسهام رحلات التبادل التجاري بين عمان والهند في إيجاد نوع من التواصل الحضاري بين المنطقتين منذ عصور تاريخية مبكرة، أسهم في تفعيله التقارب الديني بين الطرفين.

وظلت العلاقات العمانية-الهندية مكثفة حتى بعد ظهور الإسلام وجاء التجار العمانيون الذين ارتادوا الموانئ الهندية بأخبار انتشار الإسلام في الجزيرة العربية والذي دفع أهل الهند إلى التعرف على الدين الجديد المنتشر آنذاك في الجزيرة العربية. وعندما بدأت حركة الفتوحات الإسلامية وانتشر الإسلام في الهند، قام العمانيون بدور ريادي فيهما. فاستقر العديد من العمانيين في الهند بعد فتح السند ومناطق ساحلية أخرى، مما أدى إلى زيادة التواصل الحضاري بينهما وخلق علاقات تخدم مصالح سكان البلدين اللذين جمع بينهما العديد من القواسم المشتركة مثل طبيعتهما البحرية وموقعهما الجغرافي الاستراتيجي، ووجود نوع من التكامل الاقتصادي بينهما. 

ويذكر المسعودي أنه استقر عدد كبير من الهنود في سلطنة عمان في عهد دولة اليعاربة التي شجعت نزوح الخبراء من الهنود للعمل كصنّاع وأصحاب أعمال فاستوطنوا سلطنة عمان التي تمتعت في تلك الآونة بالأمن والاستقرار، وتعاونت الجالية الهندية مع اليعاربة لتخليص البلاد من السيطرة البرتغالية كما يتضح من مساعدة نروتم الهندي للإمام سلطان بن سيف اليعربي عند حصاره البرتغاليين بمسقط، وما نتج عنه من قيام أئمة اليعاربة بمنح بعض الامتيازات للتجار الهنود مثل إعفائهم من دفع الجزية والتصريح لهم ببناء معبد خاص بهم بعد تحرير عمان من السيطرة البرتغالية.

وذكر العلماء بالخصوص اسم الطائفتين من الهنود الوافدين على عمان، إحداهما يطلق عليها "الخوجة" وهم مسلمون وفدوا من حيدرآباد وغيرها من مناطق شمال الهند. والطائفة الثانية هم الأقل عددًا والأكثر ثراءً ومعروفون باسم "البانيان" من الديانة الهندوسية. واستوطنت هذه المجموعات في مناطق مسقط لكونها تسيطر على التجارة الخارجية. وازدادت العلاقات العمانية-الهندية في عهد الدولة البوسعيدية حيث تعاون الإمام أحمد بن سعيد مع السلطات الهندية للقضاء على القرصنة في المحيط الهندي. وحظي أبناء الجالية الهندية المقيمة في مسقط بمكانة اجتماعية متميزة، حيث يذكر ابن رزيق في كتاب "الفتح المبين" أن الإمام أحمد بن سعيد كان إذا نزل مطرح يكون في مقدمة مستقبليه الأعيان ثم الحيدربادية، ثم بقايا الناس. كما سمح الإمام أحمد بن سعيد للهنود الهندوس أي البانيان بإقامة مدارسهم وبناء دور عبادتهم وإيداع الأبقار فيها وحرق موتاهم في مسقط، مما أدى إلى زيادة المعابد الهندية في مسقط. وظلّوا أيضًا محتفظين بلغتهم الأم وعاداتهم وملابسهم ولم يشهد في تاريخهم أية محاولة لإجبارهم على الاندماج مع غيرهم. واستمرت حركة نزوح الهندوس إلى عمان حتى النصف الثاني من القرن التاسع عشر. وبحسب آراء المؤرخين، فإن منطقة مسقط أكثر المدن العربية احتضانًا للهنود والهندوس. 

التواصل الحضاري العماني مع الهند في مجال اللغة والأدب

استمرت العلاقات التجارية بين الهنود والعمانيين منذ عدة قرون ولكن تزايدت في عصر الفتوحات الإسلامية ونشر الإسلام في الهند ونشر اللغة العربية في تلك الأنحاء على أيدي العمانيين. ولكن تزايدَت الاحتكاكات بين الهنود والعمانيين التي تركت آثارًا عميقةً على لغة العمانيين وثقافتهم أيضًا. واقتبست اللهجة العمانية الكثير من مفردات اللغات الهندية منذ عصور تاريخية مبكرة، وذلك بفضل حركة التبادل التجاري ودخول العديد من البضائع التي لم تكن معروفة مسبقا في الأسواق حيث أن معظم تلك المفردات تدل على شيء غير معروف، إضافة إلى العديد من المصطلحات المتعلقة بالملاحة البحرية والمعاملات التجارية، وذلك بحكم أن العلاقات بين الجانبين بدأت عن طريق التبادل التجاري والملاحي، فنجد معظم المصطلحات التي أطلقت على وسائل النقل البحري في عمان ذات أصول هندية مثل البارجة والهوري، وكذلك المصطلحات المتعلقة بالمقاييس والمكاييل مثل المن والقيراط، والمواد الغذائية التي جلبها العمانيون من الهند وأصبحت جزءًا أساسيًا في المطبخ العماني. كما استخدمت تلك المفردات الهندية في اللغة العربية الفصحى بعد تحوير للاسم الهندي مثل كلمة الكافور المعربة والزنجيل والقرنفل وغيرها من المفردات. وأخذ العمانيون والهنود نفس المسميات على أدوات الحياة العصرية، مثل البنكة أي المروحة، والتاوة أي إناء قلي الطعام والكفشة أي الملعقة، وغيرها من الكلمات المشتركة ذات الأصول الهندية، وهذه هي بعض الكلمات التي تشير إلى مدى التأثر المتبادل بين اللغة الأوردية واللهجة العمانية الدارجة.

كما يتضح التمازج الحضاري بين عمان والهند في مجال الأدب، حيث نجد الكثير من القصص والحكايات العمانية التي حفظها التراث الشعبي، وتتحدث عن حكايات الرحلات التجارية إلى بلاد الهند أو ما عرف بسوالف البحر، وما تحوي مغامرات وأساطير تنتهي بحكمة أو عظة أخلاقية تتمثل غالبا في انتصار الخير على الشر، متأثرة في ذلك بالقصص المتداولة في الأدب والفولكلور الشعبي الهندي، إضافة إلى وجود قاسم مشترك بين الأدب العماني والأدب الهندي فيما يتعلق بالمس الشيطاني وحكايات السحر جاءت نتيجة للاحتكاك الثقافي بين الطرفين.

فإن الهند وسلطنة عمان من تلك المناطق التي بدأت علاقاتهما على التبادل التجاري، وتركت كل منهما تأثيرًا لا يمحى على ثقافات بعضهما البعض وهو ما يظهر في كلا البلدين. ونرى هذه التأثيرات بشكل خاص في اللغة والأدب والطعام والملابس. ولا تزال الجالية الهندية التي هاجرت إلى عمان قبل عدة قرون واستقرت في مسقط وما حولها والمدن الكبرى الأخرى تؤدي دورًا كبيرًا في ربط المجتمعين وتعزيز علاقات الصداقة والتعاون المتبادل بين البلدين الصديقين.

أ.د. رضوان الرحمن هو أستاذ بمركز الدراسات العربية والإفريقية ورئيسه سابقًا، جامعة جواهر لال نهرو، نيودلهي