سردار باتيل: الرؤية التي وحّدت الهند وصاغت هويتها الحديثة

27-10-2025  آخر تحديث   | 27-10-2025 نشر في   |  أحمد      بواسطة | آواز دي وايس 
سردار باتيل: الرؤية التي وحّدت الهند وصاغت هويتها الحديثة
سردار باتيل: الرؤية التي وحّدت الهند وصاغت هويتها الحديثة

 


بهافانا أرورا*

يخلّد التاريخ رجال الدولة اللذين استطاعوا أن يُحوّلوا رؤاهم إلى إرثٍ خالد، وكان سردار فالابهبهاي باتيل أحد هؤلاء القادة العظام الذين جعلوا من وضوح رؤيته مشروعًا وطنيًا شاملاً، فحوّل فكرته إلى واقعٍ تجسّد في أمةٍ حيّة متماسكة.

وعندما بزغ فجر استقلال الهند عام 1947م، لم تولد أمة موحّدة بقدر ما خرجت إلى العالم كخريطةٍ متشابكة من الإمارات والمناطق والمقاطعات المتفرّقة. فقد خلّف الاستعمار البريطاني وراءه واقعًا هندسيًا وسياسيًا معقّدًا، تُهيمن عليه الانقسامات الجغرافية وتوازنات القوى والهواجس المتبادلة بين المكوّنات. فوسط هذا المشهد المليء بالضبابية، لم يرَ سردار باتيل في تلك التجزئة تشتتًا، بل فرصةً تاريخية لبناء أمةٍ تتماسك بوحدة المصير المشترك.

وحين تولّى سردار باتيل منصب نائب رئيس الوزراء ووزير الداخلية، كرّس جهده لتوحيد أكثر من 560 ولاية أميرية ضمن الاتحاد الهندي. وتميّزت مفاوضاته مع الملوك والنُوّاب والمهراجات بحنكةٍ عالية، جمعت بين الإقناع والبراغماتية والثبات على المبادئ.

وأقنع باتيل حكّام ولايات مثل ميسور وبوبال وغواليور بالانضمام إلى الاتحاد الهندي بروحٍ من حسن النية والتفاهم، وحلّ أزمة حيدر آباد بحزمٍ وسرعةٍ وحكمة، وأما في حالة جوناغراه، فقد جسّد احترامه لمبدأ السيادة الشعبية حين جعل إرادة الناس الفيصل في قرار الانضمام.

ولم يكن نجاح باتيل إداريًا فحسب، بل حضاريًا بكل معنى الكلمة. ففي غضون عامين، تمكّن من نسج خيوط أمةٍ واحدة من نسيجٍ كان مهددًا بالتمزق والانقسام.

فلسفة الوحدة في التنو ع

كان فهمه لجوهر الهند عميقًا، إذ لم يرَ في تنوّعها فوضى أو تشتّتًا، بل تصميماً إلهيًا يعكس عظمة هذا الوطن. واعتبر أن تعدّد الأديان واللغات والتقاليد في الهند يشبه الأنهار التي تصبّ جميعها في محيطٍ واحد، لتشكّل معًا وحدةً روحية وثقافية تنبع من التنوع ذاته. وصرّح باتيل في أحد أقواله: "يجب أن تبقى الهند أسرةً واحدة، ويتساوى جميع أبنائها أمامها دون تمييز".

وتتجلّى رؤية باتيل في ملامح الهند المعاصرة، حيث تتحدث البلاد بمئات اللغات، لكن النشيد الوطني يوحّد القلوب قبل الأصوات، وحيث تتجاور المعابد والمساجد والكنائس في تناغمٍ يومي يعكس روح التعايش. وتحت سماءٍ واحدة، يجد الجميع مكانهم رغم اختلافاتهم. وإن هذا الشمول الثقافي هو أعظم إرثٍ تركه باتيل، الإرث الذي ما زال يحمي الهند من قوى الانقسام والتفكك، ويمنحها قدرتها الدائمة على التنوّع في إطار الوحدة.

ووحّد باتيل الهند في روحها وبنيتها، ولا يزال أثره حاضرًا اليوم في رجال ونساء الشرطة والقوات المسلحة المركزية الذين يجسّدون رؤيته في كل يوم. فهم الذين يحرسون حدود البلاد، ويحافظون على أمنها الداخلي، ويواجهون التحديات بروح المسؤولية والتفاني. وإن انضباطهم وتفانيهم في أداء الواجب يجسّدان ما وصفه باتيل يومًا بأنه "شريان الحياة للأمة – السلام الداخلي"، معناه أن قوة الهند الحقيقية تكمن في استقرارها ووحدة أبنائها.

وكان باتيل صاحب الرؤية في تأسيس جهازَي الخدمة الإدارية الهندية (IAS) وخدمة الشرطة الهندية (IPS)، بوصفهما مؤسستين تعملان بروح الحياد والكفاءة، وتضعان الدستور فوق كل اعتبار. وما زالت هاتان المؤسستان تمثّلان الركيزة الإدارية التي تحفظ استقرار الدولة وتضمن استمرارها وسط مشهدٍ سياسي متغير ومتقلب.

وعندما تضرب الفيضانات، أو تندلع الاضطرابات، أو يهدد الإرهاب أمن البلاد، تكون هذه القوات هي السدّ المنيع بين الفوضى والاستقرار. فهي تجسّد إيمان باتيل بأن وحدة الأمة لا تُصان بالشعارات وحدها، بل تُحمى بالفعل.
وإضافة إلى ساحات القتال ومكاتب الإدارة، يبرز نوع آخر من الوحدة — الوحدة الإنسانية والثقافية التي تنسج خيوط المجتمع الهندي. فالمرأة الهندية، عبر الأجيال، كانت وما زالت رمزًا للتلاحم والتعايش، تجمع الناس بالمهرجانات والموسيقى والفنون والقصص الشعبية، وتحوّل الاختلاف إلى انسجامٍ نابض بالحياة.

وحين تصنع النساء "رنغولي"(شكل فني تقليدي نشأ في الهند) في ديوالي أو ينشدن الأغاني الصوفية في الأعراس، فهنّ لا يحيين الطقوس فحسب، بل يجدّدن الإيمان بروح الهند المتعددة التي توحّد القلوب في تنوّعها.

وارتكزت رؤية باتيل للوطنية على مبدأ الانسجام والتآلف، وقد كانت النساء، بما يمتلكن من حسّ إنساني وتأثير اجتماعي، الحارسات الهادئات لتلك الرؤية. فهنّ من يحفظن شعور الانتماء الذي يحوّل الجماهير إلى مجتمعٍ متماسك، ويصلحن ما تعجز السياسة أحيانًا عن ردمه من فجوات.

وبعد مرور عقود على رحيل باتيل، لا يزال حلمه نابضًا في رؤية رئيس الوزراء ناريندرا مودي لهندٍ موحّدة قوية وواثقة. فـ"تمثال الوحدة"، الذي أُزيح عنه الستار عام 2018م في منقطة كيفاديا بولاية غوجارات، ليس مجرد أطول تمثال في العالم، بل هو تعبيرٌ شامخ عن الامتنان لأحد أبرز صُنّاع الهند. وبارتفاعٍ يصل إلى 182 مترًا، يقف التمثال شاهدًا على الدور التاريخي العظيم الذي أدّاه باتيل في توحيد الهند وصياغة هويتها الحديثة.

ويُعدّ يوم الوحدة الوطنية (راشتريا إكتا ديوَس)، الذي يُصادف في 31 أكتوبر ذكرى ميلاد سردار باتيل، مناسبةً تحوّلت إلى حركةٍ وطنية شاملة، حيث يشارك فيها ملايين المواطنين في فعالياتٍ متعددة، منها المسيرة من أجل الوحدة و موكب الوحدة والعروض الثقافية التي تجسّد تنوّع الهند وتحتفي بوحدتها تحت رايةٍ ثلاثية الألوان.

وتسهم المبادرات الحكومية مثل"إك بهارت شريشت بهارت" (هند واحدة -هند عظيمة)  في تعزيز الشراكات بين الولايات الهندية، حيث تتيح للمواطنين من ولاية تاميل نادو التعرّف إلى ثقافة آسام، ولأبناء البنجاب اختبار حياة أوديشا. ومن خلال هذا التبادل الثقافي، تتوطّد أواصر الوحدة العاطفية بين أبناء الوطن، متجاوزة الحواجز اللغوية والإقليمية، لترسّخ الانتماء إلى هندٍ واحدة متنوّعة الهوية.

وفي مجال الحوكمة، ما تزال فلسفة باتيل القائمة على الفيدرالية التعاونية تشكّل الأساس المتين للنظام الهندي. فقد كان يؤمن بأن العلاقة بين الحكومة المركزية والولايات يجب أن تقوم على التكامل لا التنافس، وعلى الشراكة لا الصراع، لأن التعاون هو الطريق إلى تنمية شاملة ومتوازنة. وتستلهم الهند نموذجها التنموي من هذه الرؤية، إذ تُدار شؤونها بروحٍ من التعاون والمسؤولية المشتركة التي وضع باتيل لبِنتها الأولى قبل عقود، لتظلّ نهجه حجر الأساس في بناء الدولة الحديثة.

وتتجلّى مبادئ باتيل اليوم بقوةٍ أكبر في عالمٍ تتسارع فيه الانقسامات والاستقطابات السياسية والهوياتية. ففي الوقت الذي تمزّق فيه سياسات الهوية أوطانًا كثيرة، تقدّم هند باتيل نموذجًا بديلًا مضيئًا لوطنٍ يتماسك بالحوار، ويزدهر بتنوّعه، ويستمد وحدته من إيمانه العميق بالمصير المشترك الذي يجمع أبناءه رغم اختلافه.

وأدرك باتيل أن الوحدة لا يمكن فرضها بالقوانين، بل تُبنى بالرعاية والعدالة والإنصاف والتعاطف الإنساني. وكان يؤمن بأن أي حكومة، مهما بلغت قوتها، لا تستطيع توحيد شعبٍ منقسم، في حين أن شعبًا متماسكًا قادر على تجاوز إخفاقات أي حكومة.

وإن إرث باتيل لا يعيش في كتب التاريخ فحسب، بل يتجلّى في نبض الحياة اليومية للهند — في مراكز الشرطة التي تحفظ الأمن، والمدارس التي تبني العقول، وفي كل ركنٍ من أركان الوطن. لقد جعل توحيده للولايات ميلاد الهند الحديثة حقيقةً واقعة، وجعلت رؤيته للمساواة أساسًا لسلامها واستقرارها، أما نهجه الإداري فبقي العمود الفقري لقدرتها على الحكم الرشيد وإدارة تنوّعها بروحٍ من الانسجام والمسؤولية.

وقال جواهر لال نهرو في إحدى كلماته: "سيخلّد التاريخ اسم باتيل بوصفه باني الهند الحديثة وموحّد أركانها".

واليوم، يواصل إرث باتيل حضوره العميق في تفاصيل الحياة الهندية — في الجندي الذي يحرس الحدود، والمرأة التي تُضيء المصباح رمزًا للأمل، والطفل الذي يرفع العلم بفخرٍ وإيمان.

وقال باتيل مؤكدًا وحدة الهوية الوطنية: "ينبغي لكل هندي أن يتجاوز انتماءه الطائفي أو القبلي، وأن يتذكّر قبل كل شيء أنه ابن الهند". وتلك الحقيقة البسيطة ما زالت حتى اليوم ركيزةً أساسية في جمهوريتنا، تذكّرنا بأن الانتماء للهند يسمو فوق كل هوية أخرى، وأن قوة الأمة تنبع من وحدتها قبل أي اختلاف.

اقرأ أيضًا: هل يمكن أن تكون ديوبند جسرًا لإصلاح طالبان؟

ووحّد باتيل الهند في زمن التأسيس، ويقع علينا اليوم أن نصون تلك الوحدة ونغذّيها — بروح التضامن، وبقلبٍ ينبض بالتعاطف، وبهدفٍ واحد يجمعنا — حتى تبقى الهند قويةً ومتماسكة.

قصص مقترحة