ثانية أنجم / بنغالورو
ويُظهر تقديم أمين سياني لبرنامج "بيناكا غيتمالا" ــ وهو من أكثر البرامج الإذاعية انتشارًا في مجال الأغنية السينمائية الهندية طوال ما يناهز نصف قرن ــ حجم التأثير الذي يمكن أن يمارسه الصوت والإلقاء في تشكيل الوعي الجمعي. فقد أسهم هذا البرنامج، بصوته المميّز وإيقاعه الخاص، في توجيه خيال ملايين المستمعين عبر الهند. ومن بين هؤلاء ظفر محيي الدين، الذي نشأ في بيئة قاسية من مدينة رايتشور في ولاية كارناتاكا. ولقد كان لصوت سياني دورٌ مباشر في بلورة تطلعات ظفر وتوجيه اهتماماته، كما لعب أسلوب الإلقاء للفنان الأسطوري دليب كومار دورًا مكمّلًا؛ إذ مثّلت وقفاته العاطفية وإيماءاته الصامتة نموذجًا فنّيًا لبلاغة الأداء غير اللفظي، وهو ما جذب ظفر وأثر في رؤيته الجمالية.
وحدث كلّ هذا في زمن كانت فيه الروائع السينمائية تتصدر المشهد الثقافي. فقد أسهمت إيقاعات بيناكا غيتمالا الدافئة، وجاذبية الأداء الدرامي لدليب كومار، إلى جانب طيفٍ واسع من المؤثرات الثقافية ــ من الحكايات الشعبية المحلية إلى صخب أسواق رايتشور الزاخرة بالحياة ــ في إشعال شغف ظفر بفنّ الحكاية وفنون الأداء.
وانتقل ظفرعام 1979م إلى مدينة بنغالورو لمتابعة دراسة البكالوريوس في الهندسة المعمارية بكلية ويشويشوارايا للهندسة. وقد شكّل هذا الانتقال نقطة تحوّل مفصلية؛ إذ وجد نفسه في مدينة تمتاز بحراك مسرحي نشط، الأمر الذي أسهم بصورة مباشرة في تشكيل مساره الفني الأول. فانضمّ إلى فرق مثل سامودايا ومسرح بنغالور الصغير، وتعاون مع شنكر ناغ، حيث كتب الحوارات لثلاثة عشر حلقة من المسلسل الشهير أيام مالغودي "مالغودي ديز".
وبعد سنوات، وتحديدًا في عام 1984م، كان ذلك الأساس الفني هو السند الذي اعتمد عليه في مواجهة فقدٍ شخصي عميق، إذ حوّل حزنه إلى أداءٍ جسّد تلك الكثافة السينمائية التي طالما أعجب بها. وهكذا أثبتت تجربته أن أكثر لحظات الحياة إيلامًا قد تعكس في كثير من الأحيان العمق العاطفي ذاته الذي حملته الأفلام التي ألهمته.
.jpg)
وفي بدايات مسيرته المهنية، جاءت مصادفة عابرة على متن حافلة لتشكّل نقطة تحوّل في حياة ظفر . فبينما كان يعيش على ما يتيسّر له، وجد نفسه جالسًا إلى جانب آر. ناغيش، أحد الرموز البارزة في أكاديمية كارناتاكا للمسرح. وفي تلك اللحظة القصيرة ولكن المؤثرة، التفت ناغيش إليه وقد لمعت عيناه كما لو أنه اكتشف موهبة كامنة، وقال له: "وقال له: "صوتك يشبه صوت أميتاب باتشان… قويّ وعميق، لكنه يحتاج إلى بعض التهذيب والتحكم".
وكان لتلك الكلمات وقع الصاعقة على ظفر؛ إذ شكّلت بالنسبة لشاب يكابد ظروفًا معيشية ضيّقة أكثر من مجرد إطراء عابر، بل مثّلت مؤشرًا على طاقة كامنة تستحق الاستثمار. ومن هنا، تحوّل التعليق إلى محفّز داخلي دفعه إلى استكشاف قدرات صوته بوعي أكبر. ورغم محدودية الموارد وضغط السعي اليومي، بدأ ظفر يطوّر علاقته بصوته باعتباره رصيدًا يمكن أن يغيّر مسار حياته.
وكانت فرصته الأولى عملًا متواضعًا في إعلان تجاري تقاضى عنه خمسين روبية—وكان ذلك يُعدّ ثروة في زمن لم تكن فيه تذكرة الحافلة ذهابًا وإيابًا تتجاوز روبية واحدة. ولم تكن إثارة ذلك المبلغ الأول مرتبطة بالمال وحده، بل كانت همسةً بإمكانٍ جديد، وإشارةً إلى أنه قادر على شقّ طريق لم يكن موجودًا من قبل.
وشارك ظفر في محاضرة بمسرح بنغالور الصغير ألقتها سيدة إنجليزية حول تقنيات ضبط الصوت ودور الوقفات والصمت في قوة الأداء. وقد استقبل ظفر تلك الأفكار بحماسة، إذ أعادت إلى ذاكرته إيقاعات إلقاء دليب كومار، بما فيها من وقفات مشحونة بالعاطفة قادرة على أسر المتلقي، لتترسّخ لديه أهمية الصمت كعنصر جوهري في التأثير الفني.
وأصبح المسرح بوتقته، واستوديو التسجيل مِطرقته التي يصقل فيها موهبته. وراح ظفر يشحذ مهارته، وكان كل أداء خطوة نحو الإتقان. وبعد سنوات، عاد القدر ليكمل دائرته؛ إذ استدعاه ناغيش، للمشاركة في مشروع وثائقي. وعندما سأله عن أجره، تلعثم ظفر قليلًا ثم قال بهدوء: "لا أريد شيئًا".
.jpg)
وقادته الحياة في اتجاه لم يتوقعه؛ فنجاحه في امتحان الخدمات المدنية أوصله إلى دلهي، حيث حصل على وظيفة مرموقة واستقرار مهني. ولكن نداء الفن كان أعلى من كل شيء. فاختار أن يستقيل، متخليًا عن البيروقراطية ليستجيب لنبض صوته، بكل ما يحمله عالم الفن من مغامرة ولا يقين.
وبعد عمله مهندسًا معماريًا في سلاح الجو الهندي، أسّس ظفر مكتبًا للاستشارات المعمارية، لكن العمارة سرعان ما تراجعت أمام شغفه الحقيقي؛ إذ أصبح صوته هو إرثه الأبرز، صوتًا يُعلّم ويروي ويصل بين الثقافات والأديان.
وأظهر عمله في التعليق الصوتي بعشر لغات—ومنها رواية الحلقات الثلاث عشرة كاملة من سوراج نامة لقناة "دوردارشان" بإخراج غيريشكارناد— قدرته على توظيف مهارته في السرد عبر مختلف الوسائط.
وفي عام 1984م، كان ظفر على وشك الصعود إلى المسرح حين وصله خبر وفاة والده. ومع ذلك تمسّك بروح المسرح قائلاً: "العرض يجب أن يستمر"، وقدم في تلك الليلة أحد أروع أدائه. وبعد أربع سنوات، أسّس في بنغالورو فرقة "كاتهبوتليان" (دمية متحركة) المسرحية، مستلهمًا اسمها من عالم الدمى ومعناه الرمزي للحياة فوق الخشبة، وجاعلًا من أعمالها منصة لمعالجة القضايا الاجتماعية والاحتفاء بالأدب والفنون والموسيقى الهندية.
وقدّم ظفر أعمالًا مسرحية بارزة تمزج بين التراث الثقافي والرؤية الاجتماعية، منها "ذِكر غالب" في القنصلية الهندية بدبي عام 2016م، و"أحلام تيبو سلطان" التي صدرت ترجمتها الأردية في احتفال رسمي عام 2016م، إضافة إلى مسرحية "جس نے لاہور نہیں دیکھا" (من لم يرى مدينة لاهور....)، التي تُعد من أبرز إبداعاته.
.jpg)
وتتناول مسرحية "آدھے ادھورے" تفكّك العلاقات واضطرابها، بينما تستكشف مسرحية موت ممثل الصراع بين السينما والمسرح، في انعكاس لقدرة ظفر على اختيار قصص مستمدة من شخصيات واقعية وقضايا محيطة به.
وأما ارتباطه الممتد لسنوات طويلة بكبار المسرحيين مثل غيريش كارناد و إم. إس. ساتهيو، فقد عمّق خبرته وصقل أدواته، مانحًا أعماله قدرة أكبر على المزج بين العمق الثقافي والنقد الاجتماعي.
ونشأ ظفر في مدينة رايتشور وسط ثقافة أردية جامعة يتقنها المسلمون والهندوس على السواء. وفي حادثة لافتة، طلب منه معلمه غير المسلم شرح معنى سورة الفاتحة، ولما عجز عن الإجابة، فاجأه المعلم البراهِمِيّ بشرح دقيق لمعنى الصراط المستقيم، مما أدهش ظفر وأبرز عمق الوعي الثقافي المشترك.
وفي زمن يطغى فيه الترفيه الرقمي، يواجه ظفر تحديات كبيرة في الحفاظ على حضور المسرح الهندي والأردي في بنغالورو، لكنه لا يزال يؤمن بأن المسرح هو المدرسة الأعمق لصقل الصوت والانفعالات.
ولتجاوز التحديات المالية، استثمر ظفر مهارته في التعليق الصوتي بعشر لغات، فشارك في وثائقيات ورسوم متحركة ومواقع دينية. وقد برز حضوره السردي في أعمال مثل أيام مالغودي وسوراج نامة، لكنه ظلّ يرى المسرح شغفه الحقيقي، مؤكدًا: "المسرح إنساني"، لما يحمله من تواصل حيّ مع الجمهور. كما أسهم خلال ولايتين في رئاسة التحالف الفرنسي في بنغالورو (Alliance Française de Bangalore)، في تعزيز التبادل الثقافي بين الهند وفرنسا، وهو ما وسّع رؤيته الفنية وأثراها.
وتنوّعت مسيرة ظفر بين الهندسة المعمارية والكتابة والتعليق الصوتي ورئاسة التحالف الفرنسي في بنغالورو، وكلّها أضافت عمقًا وتميّزًا لقدرته على السرد. وحتى تجربته القصيرة في السياسة مع حزب عام آدمِي ثم حزب المؤتمر الوطني، تعكس إحساسه بالمسؤولية الاجتماعية، رغم أنه فضّل في النهاية أن يضع الفن فوق السياسة. وكلّ محطة من محطاته كانت تغذّي رسالة فرقة "كاتهبوتليان" المسرحية في نشر الوعي وتعزيز الوحدة عبر المسرح.
وفي نوفمبر الماضي، كرّمته حكومة كارناتاكا بمنحه جائزة "راجيوتسافا" المرموقة، اعترافًا بإسهاماته الكبيرة في المسرح والأدب الأردي وتعزيز الوئام الثقافي.
اقرأ أيضًا: بنغالورو: الضابطة فوزية ترنم تعيد تعريف الحوكمة المحلية
ويتطلع ظفر إلى أن تتوسع فرقته المسرحية خارج مدينة بنغالورو، وأن تصل عروضها الاجتماعية الهادفة إلى المسارح الوطنية في مختلف أنحاء البلاد. كما يحلم بإقامة ورش تدريبية للشباب في المسرح الأردي والهندي، حفاظًا على ثرائهما الثقافي. وتُجسّد أعماله مثل "باشمينا وديدي IAS،—التي تجمع بين جرح كشمير والسخرية من البيروقراطية—قدرة المسرح على البقاء حيًّا وفاعلًا. ويأمل ظفر أن يُلهم جيلًا جديدًا يرى في المسرح أداة للتغيير.