نواز مفتاحي يُضيءُ عالمَ المكفوفين

03-12-2025  آخر تحديث   | 03-12-2025 نشر في   |  آواز دي وايس      بواسطة | آواز دي وايس 
 نواز مفتاحي
نواز مفتاحي

 


 ثانية أنجم/بنغالورو

في كيه. آر. بورم النابضة في بنغالورو، حيثُ يعلو رنينُ آلات الطباعة في شوارع تضجُّ بالحياة، وُلد نواز مِفتاحي. وكان والدُه، المسؤول عن النقل في صحيفتي دِكن هيرالد وبراجاڤاني، يضمنُ أن تمضي القصصُ عابرةً المدن، وأمّا نواز فكان مقدَّرًا له أن ينسجَ قصصًا من لونٍ آخر - قصصَ أملٍ تُخطُّ بنقاطٍ وأحلام.

وبين أربعةِ إخوةٍ، كان يختلفُ عنهم، لا بالصراع، بل بالروح. فبينما لمع إخوتُه في المدارسِ التي تعتمد على اللغة الإنجليزية، تجري أقلامُهم بسلاسة، كان قلمُ نواز يرقصُ على إيقاعٍ آخر. وتخصّص نواز في العلوم الشرعية في مدرسة بولاية تاميل نادو ليصبح عالِمًا، ثم حصل على شهادتي البكالوريوس والماجستير في اللغة الأُردية.

وفي عام 2011م، عُقد مؤتمر للأطفال المكفوفين في مومباي، وهي لحظة كفيلة بإعادة صياغة قدر نواز مضباحي. فبينما ارتفعت أصوات الصغار يتلون "عم باره" بصفاءٍ يشقُّ الضجيج، شعر نواز -وهو المبصر تمامًا لكن العميق الحس- بأن قلبه يتصدّع. ويقول وعيناه ما تزالان تلمعان بتلك الذكرى: "كانت أصواتهم تحمل ألمًا لا يمكن تجاهله". وانهمرت دموعه - لا حزنًا، بل عهدًا مشتعلًا بأن يجسر الهوّة مع العالم غير المرئي. وفي تلك القاعة المكتظّة، عاهد نواز نفسه أن يتقن لغة البرايل، لا لنفسه، بل لأولئك الذين تتوق أصابعُهم لتلمّس كلام الله. وجمع نصوص البرايل كأنها ذخائر مقدّسة، وحملها معه إلى بنغالورو، وكلُّ نقطةٍ فيها بذرةُ ثورة. فبالنسبة إلى نواز، لم يكن هذا تعلّمًا فحسب، بل كان تمرّدًا على عالمٍ يُعتم حياة ذوي الإعاقة البصرية.

وكان مركز سلطان شاه في شيفاجي ناغار -قلبِ بنغالورو النابض بحركة التبليغ والدعوة- هو بوتقته الحقيقية، وكان مكانًا عامرًا بالباحثين، وهي المسرحُ الأمثل لرؤيته. وفي عام 2012م، أطلق نواز مصباحي، إلى جانب المولانا رياض والمولانا شمس الدين باجلي، مبادرةً جريئة: فرعًا تعليميًا خاصًا بالمكفوفين. وكانت الدروسُ الأسبوعية تُقام بين جدران المركز المهيبة، بينما تنسجُ الجلساتُ اليومية عبر الإنترنت خيطًا رقميًا يصل بعالمٍ لا يُرى. وكان طلابُه من الكبار - رجالًا حفرت العقودُ تجاعيدها في أيديهم، يدخلون حضنَ التعليم للمرة الأولى. وأمّا نواز، فعيناه مبصرتان لكن قلبه كان مُشرعًا على عالمهم، يعلّم برايل فيما كان يتعلمها هو نفسه.

وبحلول عام 2013م، عاد نواز إلى مؤتمر مومباي، يقود 12 طالبًا كفيفًا من مدرسته الدينية – حضور هادئ لكنه أشبهُ بطرقِ رعدٍ مكتوم. وبين التلاوات التي تهزّ الأرواح، ذكر -بعفويةٍ تكاد تُخفي عظمة الإنجاز- قوله: "أُدرّس خمسين طالبًا عبر الهاتف". فتجمّدت وجوهُ المنظمين دهشةً، فلم يكن هذا مجرد أسلوب، بل شريانَ حياة. وتوسّع النموذج، وسرعان ما انضمّت حيدرآباد وغوجارات وجالغاون إلى هذه السيمفونية المتنامية. وفي حيدرآباد، تبنّت مؤسسة إيم. إس التعليمية النموذجَ تحت إشراف نواز، لتحتضن اليوم 150 طالبًا - كلُّ واحدٍ منهم موجةٌ في بحر رؤيته. والأكثر إلهامًا أن طلابه أصبحوا معلّمين، بعد أن تحوّل عالمهم الذي كان معتمًا يومًا ما إلى فضاءٍ مشتعلٍ بالمعنى، يضيءُ الطريق لغيرهم.

وإن مسيرة نواز نسيجٌ من الحكايات النابضة بالإنسانية. وتخيّلوا أسلمْ، الرجل الخمسيني الذي كانت ليالي رمضان عنده تغرق بالدموع. ويقول نواز، بصوتٍ يختلط فيه الفخر بالحنان: "كان يضمّ القرآن إلى رأسه وهو يبكي، مقتنعًا بأنه لن يستطيع تلاوته أبدًا". وتحت يد نواز الواثقة، لم يكتفِ أسلم بأن يتعلم، بل حلق عاليًا، يختم القرآن ثماني إلى عشر مرات في كل شهرٍ مبارك. وهذه ليست مجرد قصص.. بل نبضُ قلب عمل نواز، وبرهانٌ على أن الإيمان حين يقترن بالفرصة يعيد كتابة المصائر.

وبحلول عام 2023–2024م، اتسعت مهمة نواز في مدرسة النور في بهينّور ببنغالورو. ووسط همسات الدعاء وحفيف صفحات البرايل، وجد الأطفالُ المكفوفون ما هو أعمق من العون، وجدوا الكرامة.

ومع ذلك، يعتصر قلب نواز ألم حقيقةٍ صارخة: مدارس البرايل نادرة، مبعثرة كنجوم بعيدة في كارناتاكا وآندهرا برديش ومهاراشترا وتاميل نادو وكشمير وكولكاتا وغوجارات. ويقول متحسرًا: "إنه لأمرٌ مأساوي… أن تكون هناك أماكن قليلة فقط تُكرّم حق المكفوفين في الإيمان والمعرفة".

وتدخل مؤسسة أُمَنغ للمكفوفين المشهد، وهي رؤيةٌ جريئة بقدر ما هي جامعة، تقوم على مبدأ: "من المكفوفين… ولأجل المكفوفين". وسبعةُ أمناء مكفوفين -ناصر خان، ومجاهد باشا، وأمجد دالفي، وحيدر، وغوسيا، وسمايا، وخالد- يشكّلون قلبها الصلب الذي لا يتزعزع. غير أنّ ألمع نجومها هي أنوشا، شابةٌ في العشرين من عمرها، غير مسلمة، لكن قلبها لا يعترف بالحدود ولا الحواجز. حين عرفت بـمؤسسة "أمنغ" تقدّمت دون لحظة تردد، لتصبح أمينةً في خطوةٍ تكاد تعيد صياغة التاريخ. ويقول نواز، ووجهه يشعّ فخرًا: "رعايتها عملٌ فني… شابةٌ واحدة، المبصرة الوحيدة بين الأمناء، تسكب روحها كلّها في قضيتنا". 

اقرأ أيضًا: المولانا الدكتور محمد عمران رشادي.. صانع السلام في بنغالورو

وانطلقت "أمنغ" في نوفمبر 2025م كمركزٍ سكني في بنغالورو، فاتحةً أبوابها لكل ذوي الإعاقة البصرية بغضّ النظر عن الدين. ويتعلّم الطلابُ المسلمون تعليم القرآن بخطّ البرايل العربي، متقنين أحكام التجويد، بينما يكتسب جميع المقيمين مهارات الحياة، ومهارة الحاسوب، والتدريب المهني. إنه بيتٌ تتشابك فيه العقيدةُ والمستقبل، ليضمن لكل روحٍ استقلاليتها وكرامتها.