معراج عالم*
المخطوطات وعاءٌ قويٌّ لحفظ التراث المعرفي، لأنها تصون العلوم والمعارف البشرية من التلف والضياع؛ حيث إنها تنقل التراث المعرفي من جيل إلى جيل، ومن ثَمَّة هي تعمل كجسر يربط بين الماضي والحاضر. والمخطوطات بالعربية أكثر انتشارًا وشيوعًا في العالم، لأن بداية المخطوطات في شكلها الحالي تعود إلى العصر الإسلامي، حيث راجت الكتابة على الورق يدويًا، فأصبحت المخطوطات العربية وثيقة رئيسة ومصدرًا أوليًا للعلوم الإسلامية والمعارف البشرية التي صدرت في العصر الإسلامي. وتَهتمّ المكتبات كثيرًا بحفظ المخطوطات في العالم، واشتهرت مكتبات هندية بكونها مَهدًا لكثير من المخطوطات العربية، ومنها مكتبة السيد حكيم محمد المركزية لجامعة همدرد في نيودلهي.
نظرة عابرة على جامعة همدرد
تعد جامعة همدرد في نيودلهي من أبرز مؤسسات التعليم العالي في الهند، وفكرة إنشائها ليست وليدة صدفة، بل تعود إلى عام 1906م عندما أسّس الحكيم عبد المجيد عيادة صغيرة للطب اليوناني، ووضع لمشروعه اسم "همدرد" التي تعني المواساة ومشاركة الألم. وسلك مسلكه ابنه الحكيم عبد الحميد بعد استقلال الهند، وجعل من همدرد وقفًا خيريًا عام 1948م لخدمة الصحة والتعليم، ثم أسّس عام 1964م المؤسسة الوطنية لهمدرد لدعم الأنشطة الخيرية والعلمية. وأسّس بدعم من شركائه، مؤسسات علمية بارزة مثل معهد تاريخ الطب والبحوث الطبية عام 1962م، والمعهد الهندي للدراسات الإسلامية عام 1963م، وكلية همدرد للطب اليوناني عام 1963م في دلهي القديمة، ونُقلت عام 1980م إلى تغلق آباد لغرض توسيعها. ونالت الكليّة عام 1989م درجة جامعة معترف بها، فعُرفت بجامعة همدرد؛ حيث توجد فيها كليات الطب اليوناني، والدراسات الإسلامية، والصيدلة، والتمريض، والعلوم الحيوية، وتكنولوجيا المعلومات، وإدارة الأعمال، والعلاج الطبيعي، والعلاج الوظيفي، وبعض العلوم الاجتماعية. والجدير بالذكر أن الجامعة تقتبس رؤيتها من الآية القرآنية: "ويعلّمهم الكتاب والحكمة"، لتظل منارة للعلم وخدمة المجتمع.
نظرة على مكتبة الحكيم محمد سعيد المركزية
مكتبة الحكيم محمد سعيد من أهم الأقسام التي تحويها الجامعة، وهي تقع في الطابق الثالث من المبنى الدائري، ولذا أصبح يُعرَف بالمبنى الدائري. وليست المكتبة وليدة صدفة؛ لقد أنشأها الحكيم عبد الحميد مع إنشاء مؤسسات مختلفة تابعة لمشروع "همدرد"، تلبيةً للحاجة المؤسسية، حتى نُقلت المكتبة إلى رحاب جامعة همدرد ودُمجت المكتبات التابعة لتلك المؤسسات، وسُمِّيت عام 1992م باسم الحكيم محمد سعيد تكريمًا له، فأصبحت مكتبة الحكيم محمد سعيد المركزية، وصارت مصدرًا للتراث الطبي اليوناني والدراسات الإسلامية والعلوم المختلفة. وحسب الموقع الرسمي لجامعة همدرد، تحتوي المكتبة على أكثر من 185,000 كتاب، بما في ذلك 30,000 كتاب نادر و3415 دورية مُجلدة، كما اقتنت عددًا كبيرًا من الأقراص المدمجة، والأفلام المصغّرة، والبطاقات المصغّرة. وقد حرصت إدارة المكتبة على الاشتراك في الدوريات العلمية الهندية والأجنبية لتوفير أحدث ما يُنشر في مختلف فروع المعرفة.
فأدخلت الجامعة أحدث تقنيات الأتمتة والرقمنة، حيث تبنّت المكتبة منذ عام 2004م نظامًا متكاملًا لإدارة مواردها يعرف باسم "ليبسيس". وباستخدام هذا النظام أُنشئت قواعد بيانات ببليوغرافية متعدّدة اللغات تشمل الإنجليزية والأردية والعربية والفارسية والهندية، وهي متاحة للباحثين عبر الإنترنت على مدار الساعة. كما جُهِّزت المكتبة ببطاقات عضوية مشفّرة بالباركود تتيح لطلاب الجامعة وأساتذتها استعارة الكتب وإرجاعها بسهولة وسرعة. وكذلك أدخلت المكتبة في العام الأكاديمي 2019م نظام التداول المعتمد على تقنية "آر إف آي دي"، الذي أتاح للدارسين إمكانية استعارة الكتب وإرجاعها بأنفسهم عبر أجهزة الخدمة الذاتية، مما وفّر وقتًا وجهدًا كبيرين، إلى جانب توفير حماية إضافية من فقدان الكتب أو سوء ترتيبها. كما جرى اعتماد نظام الدخول بالبصمة لتسجيل أعداد الزائرين بشكل آلي ودقيق.
وتتميز المكتبة بخدماتها الإلكترونية، فهي عضو في عدد من الشبكات الوطنية مثل "إي شوده سندهو" و"شوده غانغا" و"دلنت" و"إنفلبنت"، ما يتيح لها توفير موارد رقمية واسعة تشمل قواعد بيانات نصية كاملة، ومجلات إلكترونية، وكتبًا رقمية، وأطروحات بحثية. كما أُتيحت إمكانية الوصول إلى هذه الموارد عن بُعد من خلال نظام "شيبوليث" بالتعاون مع خدمة "إنفِد"، ما يمكّن الأساتذة وطلاب الدراسات العليا من الاستفادة من الموارد أينما كانوا.
المخطوطات العربية في مكتبة جامعة همدرد
تضمّ المكتبة قسمًا للمخطوطات يحتوي على 3500 مخطوطة باللغات العربية والفارسية والأردية، وذلك حسب إحصائيات الموقع الرسمي للجامعة، بينما بلغ عدد المخطوطات العربية 1349، وذلك حسب ببلوغرافية وضعها موظف المكتبة قمر الحسن بخط اليد بعنوان "فهرس المخطوطات العربية". وذكر مُجهِّز الفهرس مجموعة من العناصر الأساسية لكل مخطوطة، مثل رقم التسلسل، واسم المخطوطة، واسم المؤلف، والموضوع، ومع ذلك لم يذكر في بعض الأحيان اسم المؤلف، وذلك عندما لم يجد الاسم مثبتًا في المخطوطة نفسها. ومن أبرز الأمثلة على هذه المخطوطات: نزل الأبرار بما صح من مناقب أهل البيت الأطهار، ومنية المصلي، وتحفة الشاهية، ومنتخب شرح الصدور المسمى بالفوز العظيم، والدرة المضيئة، ودلائل الخيرات، ومجموعة الوصايا، وشجرة الأولياء، ومسائل الفقه.
والجدير بالذكر أنّ الفهرس لم يتضمّن تواريخ كتابة المخطوطات، وهو أمر بالغ الأهمية، كما أنّه لم يهتم كثيرًا بتصنيف الموضوعات بشكل واضح؛ فقد استعمل مثلًا مصطلح "التذكرة" من غير توضيح المقصود به، مما جعل الأمر غامضًا، كما أنّه لم يميز بدقة بين بعض الفنون والموضوعات، فذكر الأدب من غير بيان إن كان شعرًا أم نثرًا، وأدرج موضوعات مثل السوانح والأوراد والوظائف من غير تحديد علمي دقيق. وعلى الرغم من هذه الملاحظات، يبدو الفهرس خطوة أولية تساعد الباحثين وتمهّد لهم الطريق للاستفادة من المخطوطات العربية المحفوظة في المكتبة، ولكنّ الأمر يحتاج إلى مراجعة علمية دقيقة وإعادة تصنيف وتوثيق حتى يكتسب قيمته المرجعية الكاملة في خدمة البحث العلمي والتراث المعرفي.
واقتنت المكتبة مخطوطاتٍ تنوّعت موضوعاتها بين علوم الدين والعقل والطبيعة، وهي مرآة صادقة يمكن الإطلال منها على الحركة العلمية والفكرية في عصور ماضية. وأُحصيت المخطوطات من منظور تصنيفها الموضوعي لكي تظهر كمية المخطوطات في الموضوعات، واعتمدت على فهرس المخطوطات العربية الذي جُهِّز لهذه المكتبة بخط اليد، غير أنّ معدَّه لم يذكر موضوع بعض المخطوطات، وذلك ربما بسبب أن موضوعاتها لم تتضح، فهي خارجة من نطاق هذا الإحصاء.
ويأتي على رأس هذه الكنوز من الناحية الكمية علمُ الحديث الشريف، فقد حاز النصيب الأوفر من العناية، إذ بلغ عدد مخطوطاته مئتين وعشرين، ويليه علم الطب بمئتين وثمانية، ثم يأتي الفقه حيث بلغ عدد مخطوطاته 119. وهذه الأعداد الكبيرة شاهدة على مركزية هذه العلوم في حياة المسلمين. والجدير بالذكر أن وفرة عدد المخطوطات في علم الطب تشير إلى رؤية مؤسس جامعة همدرد الحكيم عبد الحميد؛ حيث حلم بتطوير الطب اليوناني مع تطور الطب الحديث. وبالإضافة إلى ذلك، توجد المخطوطات في علوم أخرى، وقائمتها فيما يلي:
رقم التسلسل |
موضوع المخطوطة |
العدد |
1 |
المنطق والمعقولات |
83 |
2 |
علم الكلام والعقائد |
58 |
3 |
النحو والصرف |
53 |
4 |
التفسير |
48 |
5 |
التصوف |
41 |
6 |
السيرة النبوية |
38 |
7 |
أصول الفقه |
33 |
8 |
الأدب والإنشاء |
27 |
9 |
الفلسفة والمعقولات |
23 |
10 |
المناظرة |
18 |
11 |
البلاغة والمعاني والبيان |
21 |
12 |
التاريخ |
14 |
13 |
علم الهيئة |
14 |
14 |
التجويد |
11 |
15 |
أسماء الرجال |
11 |
16 |
المعجم |
11 |
17 |
السوانح (التراجم) |
15 |
18 |
الجغرافيا |
12 |
19 |
الأخلاق |
8 |
20 |
الأوراد |
8 |
21 |
العروض |
7 |
22 |
الطبيعيات |
6 |
23 |
المناقب (الفضائل) |
6 |
24 |
علم النجوم |
5 |
25 |
القرآن |
5 |
26 |
أصول الدين |
5 |
27 |
الأدعية |
4 |
28 |
الرحلة |
4 |
29 |
الفقه الشيعي |
2 |
30 |
الرياضي |
3 |
31 |
علم الجبر |
2 |
32 |
علم الفرائض |
2 |
33 |
المتفرّق |
2 |
34 |
علم الأديان |
1 |
35 |
علم الهندسة |
1 |
36 |
علم الأصول |
1 |
37 |
الموسيقى |
1 |
38 |
علم الرؤية |
1 |
39 |
علم الحيوان |
1 |
40 |
علوم الدين |
1 |
41 |
أصول الحديث |
14 |
42 |
الحديث الشيعي |
2 |
وتدلّ هذه القائمة على أن الغابرين من العلماء خلّفوا تراثًا علميًّا في كل موضوع من الموضوعات، سواء كانت دينية وإسلامية أو عقلية ولغوية، مما تتضح معه سعة أفق الحضارة الإسلامية وتنوّع اهتمامها بالكون والإنسان والحياة، إلا أنّ المخطوطات في علوم الحديث والطب والفقه أكثر حضورًا في هذه المكتبة. ولعلماء شبه القارّة الهندية نصيب وافر من ترويج العلوم الإسلامية والعقلية؛ لأنهم تركوا تراثًا ضخمًا من المخطوطات في موضوعات مختلفة. ومن هذه المخطوطات المتوفرة في مكتبة جامعة همدرد: كتاب الفوائد في شرح الفوائد لملا محمود الجونفوري في موضوع المعاني والبيان، وحاشية شرح تجريد لمولانا شاه فتح الله، ومنتخب كنز العمال لعلي متقي في علم الحديث، ورسالة في عالم البلاغة والمعاني لعلي متقي أيضًا، وفصول في علم الحديث لمحمد كامل الملتاني، والمنهج الأتم في تبويب الحكم لعلي بن حسام الدين الهندي في الفقه، وشرح أصول كبرى لعلي أكبر بن علي إله بادي في علم الصرف والنحو، والشمائل المحمدية لمحمد فاخر إله بادي في السيرة النبوية، ورسالة في فضائل معاوية لمحمد خياط السندي المدني في الترجمة، ودرّة التحقيق في نصرة الصديق لمحمد فاخر إله بادي في سيرة الصحابة، وإرشاد الحنفاء في وصف الخلفاء لعبد الرحيم الملتاني في التاريخ.
ومن ثمّ، يتضح أن مكتبة الحكيم محمد سعيد المركزية لجامعة همدرد حوت فيما بين جدرانها تراثًا علميًّا قيّمًا من المخطوطات العربية، وصانتها من الضياع. وبالفعل اقتنت المكتبة بعض المخطوطات النادرة جدًّا، ومنها: تكميل الصناعة للشاه رفيع الدين بن الشاه ولي الله الدهلوي، وإظهار حل الحقيقة الواقعية في اختلاف اتحاد الحنفية والشافعية للسيد أحمد بن مظهر علي رضوي الغازيبوري، وحبل متين من كلام سيد المرسلين لمحمد بن محمد خواجة الحنفي. فأما تكميل الصناعة فهو في الفلسفة الإسلامية، والسنة المسجَّلة عليه 1296هـ الموافق 1979م، وذكره العالم الإسلامي والمؤرخ الشهير رحمن علي في كتابه "تذكرة علماء الهند". وهذه النسخة هي أول نسخة أصلية وقّع عليها أحد تلامذة الشيخ الشاه رفيع الدين المحدث الدهلوي، ويتحدّث هذا المخطوط عن قضية وجود الله والرؤية الفلسفية المتعلقة بفناء العالم. وأما مخطوط إظهار حل الحقيقة الواقعية في اختلاف اتحاد الحنفية والشافعية فذُكر عنوانه في الصفحة الثانية عشرة، ولا تتوفر تفاصيل هذا المخطوط في أي مكتبة أخرى في العالم، وهو في مجال الفقه الإسلامي حيث يتحدث عن الفروق بين المذهب الحنفي والمذهب الشافعي، والعام المسجَّل عليه 1305هـ الموافق 1887م. وأما مخطوط حبل متين من كلام سيد المرسلين فتوجد نسخة واحدة منه في مكتبة خدا بخش الشرقية بمدينة بتنا، وقد كُتبت عناوينه باللون الأحمر، وحدودها ملوّنة بخطوط مذهبة بالحبر الذهبي، كما زُيّن باللون الذهبي المستخرج من الذهب، ويتضمن هذا المخطوط توجيهات تحث على اتباع أحاديث النبي.
فالمكتبة لا تقتصر جهودها على حفظ التراث فقط، بل تحاول رقمنة المخطوطات لكي يتمكن الباحثون من الاستفادة منها عن بُعد. ولتحقيق هذا المشروع مدّ مركز جمعة الماجد للثقافة والتراث في دبي يد الشراكة في دعم جهود الرقمنة إلى جامعة همدرد، وزوّد المكتبة بأحدث أجهزة التصوير الرقمي، التي تستطيع رقمنة 3800 مخطوطة نادرة، والعمل جارٍ عليها، ويتوقّع – حسب ما أفاده التقرير في موقع التبراة – إنجاز المشروع الكامل بحلول منتصف عام 2026م. فعندئذٍ ستسهل الاستفادة للباحثين عبر العالم من المخطوطات المحفوظة في مكتبة جامعة همدرد. والحاجة ماسّة إلى الالتفات إلى المخطوطات القيّمة للباحثين، لكي يتم تحقيق هذا التراث العلمي والمعرفي والإسلامي الضخم وتدقيقه حتى يظهر على منصّة الشهود. ويمكن أن يعتني الباحثون المتخصصون في الدراسات الإسلامية بالمخطوطات في العلوم الإسلامية، وللباحثين المهتمين بالأدب العربي فرصة سانحة للعمل على المخطوطات المتعلقة بالأدب العربي بما فيها الصرف والنحو والبلاغة والمعاني؛ فعلى سبيل المثال: التصدير والتعجيز في الصرف والنحو لمولانا السيد شيخ بن محمد الجعفري، والمقامة الهندية لأبي بكر بن محسن.
*باحث في مركز الدراسات العربية والإفريقية، جامعة جواهر لال نهرو، نيودلهي.