نعيم أختر
في كل عامٍ، حين تتلألأ الأضواء في ليالي الهند، ويعبق الجو برائحة الحلويات والزهور، يحتفل الملايين بمهرجان تتجاوز أنواره الحدود، اسمه "ديوالي". وليس مجرد مهرجان ديني، بل لحظة إنسانية تفيض بالبهجة والوئام، تمتد من مدن الهند المزدحمة إلى شواطئ الخليج العربي وأفق الإمارات المضيء، حيث تتوحّد القلوب في رسالةٍ واحدة: النور أقوى من الظلام، والمحبة أسمى من الاختلاف.
ويُعدّ عيد ديوالي، أو ديباوالي كما يُسمّى في بعض اللغات الهندية، واحدًا من أبهى وأهم الأعياد في الهند، يحتفل به ملايين الناس في أرجاء البلاد وخارجها، بمزيج من البهجة الروحية والبهاء المادي. وتعني كلمة "ديباوالي" حرفيًا "صفّ الأضواء"، وهي إشارة إلى المصابيح الزيتية الصغيرة التي تُضاء في البيوت والشوارع والمعابد، رمزًا لانتصار النور على الظلام، والخير على الشر، والمعرفة على الجهل.
وهذا المهرجان ليس حكرًا على طائفة بعينها، بل يحتفي به الهندوس والسيخ والجاينيون لما يحمله من دلالات اجتماعية وروحية عميقة. فهو في أحد معانيه تذكير بانتصار الإله راما على رافانا وعودته إلى مملكته "أيودهيا"، وفي معنى آخر احتفاء بذكرى الإلهة لاكشمي، آلهة الثروة والرخاء، حيث يتمنى الناس عامًا مليئًا بالنور والبركة والازدهار.
وفي الهند، تبدأ الاستعدادات للعيد قبل أسابيع، إذ تُزيَّن البيوت بالأنوار، وتُرسم الزخارف التقليدية (الرانغولي) عند المداخل بألوان زاهية. وتتحول الأسواق إلى لوحات مبهجة تعجّ بالناس الذين يشترون الهدايا والحلاوى والملابس الجديدة. وتُطلق الألعاب النارية في السماء، فتضيء المدن الكبرى مثل مومباي ونيودلهي وكولكاتا بألوان براقة.
ويتميّز المهرجان أيضًا بطقوس العطاء والتسامح، حيث يتبادل الناس الحلويات والهدايا، ويزورون أصدقاءهم وجيرانهم من مختلف الأديان. وهذا التبادل الرمزي يجسد فكرة الوحدة والتعايش في مجتمع متنوع مثل المجتمع الهندي. فالهند بلد متعدد الأديان واللغات والثقافات، ومع ذلك، فإن هذا المهرجان يصبح مناسبة جامعة تُذيب الفوارق وتجعل الجميع جزءًا من بهجة جماعية واحدة.
ومع ازدياد عدد الجاليات الهندية في منطقة الشرق الأوسط، خاصة في دول الخليج، أصبح عيد "ديوالي" حدثًا معروفًا ومُحتفى به في العديد من الدول العربية. وتقيم الجاليات الهندية احتفالات جماعية في المدن الكبرى، حيث تُضاء المعالم العامة، وتُقدَّم العروض الثقافية، وتُشارك شعوب المنطقة في الأجواء، مما يعكس روح التسامح والانفتاح التي تتميز بها المجتمعات العربية الحديثة.
وتُعدّ الإمارات العربية المتحدة أبرز مثال على هذا التلاقي الحضاري. ففي دولة يعيش فيها أكثر من ثلاثة ملايين من الهنود، أصبح مهرجان "ديوالي" جزءًا من المشهد الثقافي السنوي.
وتُقام الاحتفالات في دبي وأبوظبي والشارقة وغيرها من الإمارات، حيث تتزيّن ناطحات السحاب والأسواق الكبرى مثل "دبي مول" و"ياس مول" بالأضواء، وتُعرض عروض الألعاب النارية في مناطق سياحية مثل "برج خليفة" و"عين دبي".
ولا تقتصر هذه الاحتفالات على الجاليات الهندية، بل يشارك فيها العرب والمقيمون من مختلف الجنسيات هناك، مما يجسد القيم التي قامت عليها دولة الإمارات؛ التسامح، والاحترام المتبادل، والتنوع الإنساني. وقد حرصت الحكومة الإماراتية على تعزيز هذا النهج عبر "وزارة التسامح والتعايش" التي تشجع جميع الفعاليات الثقافية، وتعتبرها جسورًا للتقارب بين الشعوب.
وتؤدي السفارات الهندية في الدول العربية دورًا محوريًا في تنظيم الاحتفالات بعيد ديوالي خارج الوطن الأم. ففي الإمارات، والسعودية، وقطر، وعُمان، ومصر، والأردن وغيرها من البلدان العربية، تُنظَّم فعاليات رسمية بإشراف السفارات والقنصليات الهندية، تشمل حفلات موسيقية، ومعارض فنية، وعروضًا تراثية، يتم فيها إبراز جمال الثقافة الهندية.
وتدعو السفارات عادة شخصيات عربية رسمية وثقافية للمشاركة، وتُقدَّم المأكولات الهندية التقليدية والحلويات الخاصة بالمناسبة مثل "لدو" و"جليبى" و"كاجو برفي"، مما يعزّز التبادل الثقافي والإنساني بين الهند والعالم العربي.
وقد أصبح هذا المهرجان في هذه الدول مناسبة دبلوماسية أيضًا، تعكس دفء العلاقات بين الهند وشركائها العرب، ليس فقط في الاقتصاد، بل في التبادل الثقافي والإنساني.
وفي المملكة العربية السعودية، التي تضم جالية هندية كبيرة، بدأت أجواء ديوالي تظهر بوضوح في السنوات الأخيرة، خاصة في المدن الكبرى مثل الرياض وجدة والدمام. وبالرغم من الطابع المحافظ للمجتمع، فإن السفارة الهندية تنظم احتفالات مغلقة أو رسمية بمشاركة الجالية، مع التأكيد على احترام العادات المحلية.
وأما في قطر، فتقام فعاليات ضخمة تشرف عليها السفارة الهندية ومراكز الجالية، وتضم حفلات موسيقية ومهرجانات طعام وألعابًا نارية. وفي سلطنة عُمان، تحتضن مسقط فعاليات ثقافية رائعة تجمع بين الطابع الهندي والذوق العربي، حيث تضاء الطرق بالأضواء في المناطق التي تقطنها الجالية الهندية.
وما يجعل ديوالي يحتل مكانةً مميزة بين أعياد العالم هو أنه ليس مجرد طقس ديني، بل هو رمز إنساني عالمي. ففكرته الأساسية — انتصار النور على الظلام — تلامس وجدان الإنسان في كل مكان. وإنها دعوة للتفاؤل بعد اليأس، وللسلام بعد الصراع، وللتجديد بعد الفناء.
اقرأ أيضًا: عيد الأنوار "ديوالي" في الهند: احتفال بالنور والأمل
وإن عيد ديوالي اليوم لم يعد مجرد مناسبة هندية، بل أصبح مهرجانًا عالميًا للسلام والتسامح. فمن نيودلهي إلى دبي، ومن أبوظبي إلى القاهرة، يتشارك الناس من مختلف الأديان والثقافات لحظات من البهجة والصفاء، ويؤكدون أن الإنسانية تتجاوز الحدود الدينية والقومية.
وفي زمنٍ يكثر فيه الصراع وسوء الفهم بين الأمم، يأتي مهرجان ديوالي ليذكّرنا بأن النور قادر على تبديد الظلام، إذا حمله الناس في قلوبهم قبل بيوتهم. ومهما اختلفت الألسنة والطقوس، فإن الرغبة في الخير والسلام والفرح تجمع البشرية كلها.