قصة خالي… حين حاولت قرية في كشمير أن تواجه العاصفة بالوحدة

08-12-2025  آخر تحديث   | 08-12-2025 نشر في   |  أحمد      بواسطة | Aasha Khosa 
قصة خالي… حين حاولت قرية في كشمير أن تواجه العاصفة بالوحدة
قصة خالي… حين حاولت قرية في كشمير أن تواجه العاصفة بالوحدة

 


آشا خوسا*

شهدت كشمير، في مطلع التسعينيات، مغادرة عدد كبير من الهندوس الكشميريين لبيوتهم وأماكن معيشتهم، بسبب موجات العنف وتصاعد العمل المسلّح في المنطقة. كما تُظهر الحقائق المسجّلة أنّ بعض عمليات القتل التي طالتهم نفّذها مسلّحون من المسلمين، غير أنّ الاكتفاء بتعميم هذا الواقع لا يعكس الصورة كاملة؛ فالمشهد كان أكثر تعقيدًا، تتداخل فيه عوامل سياسية واجتماعية وأمنية، ولا يمكن النظر إليه كقضية ثنائية بين خير وشر، بل كواقع متعدد الطبقات تتداخل فيه مستويات متعددة من الدوافع والسياقات.

وقد انعكس ذلك بوضوح في ما جرى مع خالي، الذي كان يعيش في قرية بوسط كشمير قرب منطقة شرار شريف ببلدة بودغام. وكان يعيش مع والدته وزوجته وأطفاله الثلاثة—ابنتين وولد—في منزل العائلة القديم. ولسببٍ ما، لم يواصل دراسته إلى ما بعد المرحلة المدرسية.

وكان يمتلك حقلًا لزراعة الأرز، وبستانًا، وحديقة خضروات، إضافة إلى مطحنة صغيرة للأرز وأخرى للزيت، ويعيش حياة بسيطة وهادئة في القرية. وكانت قناة صغيرة تتعرّج أمام منزله. وكنّا نراه بوضوح من النافذة الفرنسية في الطابق الثاني، وهو يغلق المطحتين، ثم يمشي بخطوات مطمئنة عائدًا إلى المنزل ليتناول غداءه ويأخذ قيلولته عند الظهيرة.

وعندما عصفت الاضطرابات بكشمير، وبدأ الهندوس يغادرون جماعات في شهري يناير وفبراير عام 1990م، ظلّ خالي واقفًا عند حدّه، كأنّ الأرض التي تحت قدميه تشدّه إليها. وفيما كانت العائلة الموسّعة كلّها تغلي بالقلق عليه، بقي هو ثابتًا في قراره، لا يميل مع الموجة ولا يتزحزح عن بيته.  

وكان يقول لأخواته وأخيه الأكبر، الذين ظلّوا يحثّونه عبر الهاتف من مدينة جامو، حيث انتقل معظم الكشميريين: "نحن أبناء القرية، من هندوس ومسلمين، تعهّدنا أن نبقى متّحدين وأن ندعم بعضنا البعض. ولا أرى ما يدفعني إلى خرق هذا التعهّد أو الخروج عليه".

ولا يكفي القول إنّ الوضع في كشمير كان متوتّرًا؛ فقد شهدت المنطقة مستوى غير مسبوق من العنف والقتل الموجّه والاضطراب الاجتماعي.. ومع ذلك، كان أهالي تلك القرية قد اتخذوا قرارًا واعيًا بالسير عكس التيار السائد.

وفي الوقت الذي كان فيه الهندوس يفرّون من قراهم، كان المسلمون في هذه القرية يطالبون جيرانهم من الهندوس بالبقاء، متعهدين بحمايتهم. وبالنسبة للمسلمين، كان وجود الهندوس يمنحهم نوعًا من الطمأنينة؛ إذ يمكن أن يحدّ من تصرّف المسلّحين بحرية، وقد يدفع الجيش وقوات الأمن إلى التعامل معهم بقدر من الليونة خلال عمليات مكافحة التمرّد.

وأدركت لاحقًا، بعد أن أصبحت صحفية، أن أشخاصًا مثل خالي—الذين لم يكن تعليمهم كافيًا لمواجهة التحديات خارج بيئتهم—كانوا يترددون في الرحيل.

وفي أحد أيام الصيف، كان خالي يغلق المطحنة استعدادًا لاستراحة الغداء عندما اقترب منه رجل غريب. سأله: "هل يمكنك أن ترشدني إلى بيت بابلووجي؟"

وكان بابلووجي مهندسًا يعمل في بولواما في جنوب كشمير، بينما كانت والدته المسنّة تعيش وحدها في البيت الواقع خلف منزلنا. وكان بابلووجي، يعيش ويعمل في منطقة آمنة وفقًا للسياسات الرسمية، ولا يزور منزله إلا بين حين وآخر ليرى والدته. وبعد أن دلّه خالي على بيت بابلووجي، أغلق بوابتي المطحنة وعاد يعبر الجسر الصغير فوق القناة باتجاه منزله، حين سمع فجأة دويّ إطلاق نار. وتطايرت الطيور التي كانت على الأشجار، وتعالى صراخ امرأة شقّ هدوء القرية، فسارع الأهالي بالاتجاه نحو منزل بابلووجي.

وتجمّد خالي في مكانه من الهول، ثم حمله الناس إلى البيت وهو شبه فاقد للوعي.

وما إن دخل بابلووجي إلى البيت حتى جاء طرقٌ على الباب الخشبي. وفتحت والدته، فسألها الرجل الغريب—وهو نفسه الذي التقى بخالي قبل دقائق—"هل بابلووجي في الداخل؟ أريد أن أقابله".

ونزل بابلووجي من الطابق الأول، فأطلق الغريب النار عليه بمسدس، فسقط قتيلًا أمام والدته.

وقوّضت الجريمة ثقة أهالي القرية بأن وحدتهم كافية لحمايتهم، بعدما أدركوا أن الغرباء المدجّجين بالسلاح قادرون على قتل أيّ شخص بسهولة.

وشعر خالي بالذنب لأنه أرشد القاتل إلى بيت بابلووجي، فيما أصابت الجريمةُ الجميعَ بصدمة عميقة ودَفعت المسلمين، بقلوب مثقلة، إلى طلب رحيل جيرانهم الهندوس.

وجمع الهندوس ما يستطيعون من أمتعة ثمينة، ونظّم أهل القرية، في المساء، بضع شاحنات لنقلهم إلى جامو التي تبعد نحو 300 كيلومتر. وعند الرحيل، ودّعهم القرويون بدموعٍ غزيرة، طالبين منهم وعدًا بأن يعودوا حالما تتحسّن الأوضاع.

وتحرّكت الشاحنات في عتمة الليل، وسط سكون الطريق السريع المؤدي إلى جامو، ولم يتبادل أحد كلمة واحدة. وكان خالي وزوجته وأطفاله غارقين في القلق على مستقبلهم. وفي صباح اليوم التالي، وصلت الشاحنات إلى جامو في حرّ خانق، بينما لم تكن العائلة تعرف بعد أين تتجه.

وحاول خالي أن يدفع للسائق أجر الرحلة، ولكن ما حدث بعدها فاجأه تمامًا؛ إذ انهمر السائق بالبكاء ورفض أن يأخذ المال. ووضع السائق، بدل أن يأخذ الأجرة، بضع أوراق نقدية في يد خالي وأطبق أصابعه عليها. وأمسك بيده بإحكام وقال له: "لا يمكنني أن آخذ منك مالًا. أنا لم أساعدك… لقد اقتلعتك من بيتك وألقيت بك على قارعة الطريق بلا وجهة".

اقرأ أيضًا: لكناو علّمتني أن السلام هو الانتماء رغم الاختلاف

وتعانق الرجلان طويلًا، وانهمرت دموعهما بغزارة، كأنهما يتركان للألم المتراكم فرصة للخروج.