نالاندا: رمز للمشروع الحضاري للهند عبر القرون

25-09-2025  آخر تحديث   | 25-09-2025 نشر في   |  أحمد      بواسطة | آواز دي وايس 
نالاندا: رمز للمشروع الحضاري للهند عبر القرون
نالاندا: رمز للمشروع الحضاري للهند عبر القرون

 


شنكر كومار*

لا تُعرف منطقة نالاندا التاريخية، الواقعة في ولاية بيهار، لمجرّد كونها موقعًا أثريًا أو مؤسسة تعليمية قديمة، بل تُعدّ تجسيدًا حيًا لجوهر المشروع الحضاري الهندي عبر القرون. فهي تجمع بين عمق الفكر الفلسفي، وثراء الإنتاج الثقافي، والدور الريادي للهند في تشكيل مسارات المعرفة عالميًا. وهذا ما كشف عنه أبهاي كومار، الدبلوماسي والباحث الثقافي، الذي يشغل حاليًا منصب نائب المدير العام للمجلس الهندي للعلاقات الثقافية، في كتابه "نالاندا: كيف غيّرت العالم".

ويقدّم أبهاي قراءة معمّقة لنالاندا باعتبارها بوتقةً دوليةً للثقافات والمعارف خلال الفترة ما بين القرن الخامس الميلادي وحتى عام 1200م. فقد قصدها عدد كبير من العلماء الأجانب من الصين وكوريا والتبت ونيبال وشرق آسيا وآسيا الوسطى وغربها، حيث توافدوا إلى مكتبتها الضخمة لدراسة مختلف السوترا البوذية ونسخها.

ويشير كومار إلى أن مكتبة نالاندا، التي عُرفت باسم "دهرماغرنج" أو "جبل الحقيقة"، كانت من أعظم الصروح المعرفية في التاريخ، إذ ضمّت ملايين المخطوطات. وقد تكوّنت من ثلاثة أقسام رئيسة حملت أسماء رمزية ذات دلالة فلسفية، وهي "راتنادادهي" (بحر الجواهر)، و"راتناساغارا" (محيط الجواهر)، وراتنارانجاكا (المزينة بالجواهر). ومن أبرز هذه الأقسام "راتناساغارا"، الذي كان مبنى شاهقًا يتألف من تسعة طوابق.

وذكرت هيئة الإذاعة البريطانية في مقال نُشر في فبراير 2023م أن جامعة نالاندا كانت تحتضن نحو تسعة ملايين كتاب، كما جذبت ما يقارب 10,000 طالب من مختلف أنحاء العالم.

وتشير هذه الروايات إلى الثروة الفكرية الاستثنائية التي تمتعت بها هذه المؤسسة التعليمية في الهند القديمة، لكنها في الوقت ذاته تكشف عن الأجواء العلمية النشطة، التي كانت تسود أرجاء الحرم الجامعي الشاسع، بما جعلها تُصنَّف كأول جامعة سكنية في العالم.

وتشمل المناهج التعليمية في نالاندا نصوص الفيدا والبراهمانات، وعلوم المنطق (هيتوفيديا) واللغة (سابدفيديا) والطب (تشيكيتسافيديا)، ومؤلفات السحر، وفلسفة السانكيا، والفلك، والقانون، وفيلولوجيا النصوص، وقواعد اللغة السنسكريتية إلى جانب نصوص المهايانا ومذاهب البوذية الثمانية عشر.

ويذكر أبهاي في كتابه أن أريابهاتا، الذي يُعدّ "أبا الرياضيات الهندية"، كان أبرز علماء نالاندا مهافيهارا في القرن السادس الميلادي، في وقتٍ احتضنت فيه الجامعة كوكبة من أعلام الفكر والعلم. فقد ضمّت نالاندا أيضًا أسماء مرموقة مثل ناغارجونا، وفاسوبندهو، وشانترَكشيتا، وكمالاشيلا، إلى جانب عدد كبير من العلماء المتميزين الذين أسهم حضورهم في تعزيز الحيوية الفكرية للحرم الجامعي، وترسيخ مكانته كأعظم مركز للتعلّم في عصره.

ويؤكد الكتاب أن السنسكريتية كانت الغة التدريس، وكان يُشترط على العلماء الأجانب، الذين قصدوا نالاندا لدراسة الطب والرياضيات والمنطق والفلسفة ومبادئ البوذية، أن يكتسبوا كفاءة في السنسكريتية قبل وصولهم إليها.

ولا شك أنّ المؤلف قد تناول في كتابه مختلف الجوانب الدقيقة لتاريخ نالاندا وإرثها الفكري، ونجح في إبرازها بصورة شاملة. كما سعى إلى جعل السرد أكثر تشويقًا للقراء من خلال دمج الحقائق التاريخية بأسلوب قصصي. ويتضح ذلك في عرضه لرحلة العالم الصيني الشهير شوانزانغ إلى نالاندا بين عامي 630 و643م.

وتكشف رحلة شوانزانغ إلى نالاندا عن مزيج من العزيمة الفردية والتحديات السياسية التي طبعت سياقها التاريخي. فالصين في عهد الإمبراطور تايتسونغ من أسرة تانغ كانت تفرض قيودًا صارمة على سفر مواطنيها إلى الخارج، ما جعل قرار شوانزانغ بمغادرة البلاد فعلًا محفوفًا بالمخاطر. ورغم هذه القيود، أقدم على خوض الرحلة مخاطِرًا بحياته. وقد أُلقي القبض عليه من قِبل حرس الحدود، لكن حين اطّلعوا على الهدف النبيل لرحلته العلمية، أطلقوا سراحه، مما أتاح له استكمال رحلته إلى نالاندا.

ومن اللافت للنظر أنّ شوانزانغ، بعد عودته إلى الصين وهو يحمل معه 657 كتابًا من نالاندا، حظي باستقبال رسمي حافل من قِبل إمبراطور أسرة تانغ. وقد أشار إلى هذه التفاصيل الشاعر والدبلوماسي أبهاي كومار خلال عرضه لكتابه في فعالية نظّمها مركز الفكر مؤسسة فيفيكاناندا الدولية في نيودلهي.

وأوضح المؤلف أنّ تفرّد نالاندا ارتكز على مبادئ أساسية جعلتها في موقع استثنائي بين مؤسسات التعليم في العالم القديم، وهي: بنية معرفية متقدمة، وطابع كوزموبوليتاني جسّدته تركيبة طلابية متعددة الجنسيات من الصين والتبت وكوريا وسريلانكا ونيبال وفارس، ومعيار قبول قائم على الجدارة بعيدًا عن اعتبارات الثروة أو الانتماء الطبقي، ونظام رعاية ودعم مستدام من الأباطرة والمجتمعات المحلية، ورؤية تعليمية إنسانية تتجاوز حدود التوظيف أو الكسب المادي، وتركّز على تحقيق الارتقاء الشامل للفرد والمجتمع.

ومع ذلك، فإن الكتاب لم يَخلُ من بعض الأخطاء التحريرية. فعلى الرغم من صدوره عن دار بنغوين راندوم هاوس في 193 صفحة، فقد ان يحتاج إلى قدر أكبر من العناية من قِبل فريق التحرير لتلافي الأخطاء الواردة فيه. وفي هذا السياق، وجّه البروفيسور كيه. تي. إس. ساراو ملاحظة مباشرة إلى المؤلف والناشر بضرورة إصدار طبعة ثانية تُصحَّح فيها الأخطاء الواقعية، التي كان بالإمكان تفادي معظمها بجهد تحريري أكثر دقة. ومع ذلك، لم يتردد في الإشادة بالكتاب، واصفًا إيّاه بأنه "عمل جميل".

وشارك الدكتور سشهادري شاري في الفعالية التي نظمتها مؤسسة فيفيكاناندا الدولية كأحد أعضاء فريق النقاش، واقترح على المؤلف أن يفكّر في تحويل الكتاب إلى فيلم وثائقي قصير، لما يمكن أن يتيحه من وسيلة جذّابة للجمهور لاستعادة صورة الهند وماضيها العريق. وبالمثل، أشاد البروفيسور شايليندرا راج ميهتا من جامعة أو. بي. جيندال العالمية بالكتاب، معتبرًا أنه نجح في بناء جسر بين الماضي التاريخي والتحديات المعاصرة.

اقرأ أيضًا: وفاة زوبين غارغ: نهاية فصل موسيقي ومجتمعي في شمال شرق الهند

وفي جملة القوال أن أبهاي كومار قدم في كتابه "نالاندا: كيف غيّرت العالم" قراءة تستعيد المكانة المرموقة لمؤسسةٍ شكّلت في حقبتها ذروة التعلم العالمي وحوار الثقافات. ومن خلال دمجه بين الحقائق التاريخية والعمق السردي، ويذكّر القرّاء بأن نالاندا لم تكن مجرد جامعة في عصرها، بل كانت تجسيدًا حيًّا للرؤية الحضارية للهند.