مانجيت ثاكور*
شكّلت الانتخابات الإقليمية لعام 1946م نقطة تحوّل مفصلية في تاريخ شبه القارة الهندية، إذ لم تكن مجرّد منافسة رقمية على المقاعد، بل كانت معركة سردية عميقة في الخطاب السياسي والسلوك المجتمعي وصياغة ملامح القيادة لما بعد الاستقلال.
واكتسبت هذه الانتخابات أهمية خاصة في ولاية بيهار، حيث خُصِّص من أصل 152 مقعدًا في المجلس الإقليمي، 40 مقعدًا للمسلمين، فيما خُصصت 86 مقعدًا للفئات العامة، وهو ما جعل الساحة الانتخابية تعكس توازنات الهوية والدين والسياسة في مرحلة مصيرية من التاريخ الهندي الحديث.
ولا شك أن نتائج انتخابات عام 1946م أثبتت أن المشهد السياسي خلال مرحلة حركة الاستقلال بدأ يتبلور على أسس طائفية. فقد اتّضح أن الانقسام السياسي لم يعد قائمًا على التوجهات الوطنية أو الفكرية فقط، بل امتدّ ليعكس الفوارق الدينية والاجتماعية داخل شبه القارة الهندية. وعلى الرغم من ذلك، حقق حزب المؤتمر الوطني الهندي نجاحًا واسعًا على المستوى الإقليمي خلال تلك الانتخابات، وتمكّن في الوقت نفسه من الظهور كأكبر قوة سياسية على الساحة الوطنية، مما رسّخ مكانته كـالفاعل الرئيسي في المرحلة الحاسمة السابقة للاستقلال.
ولكن النتائج في ولاية بيهار جاءت متباينة، إذ رغم أن حزب المؤتمر الوطني الهندي تمكّن من حصد الحصة الأكبر من إجمالي المقاعد، فإن الرابطة الإسلامية (مسلم لیگ) نجحت في تحقيق تقدم ملموس بين الناخبين المسلمين. وفاز حزب المؤتمر بـ98 مقعدًا، بينما حصلت الرابطة الإسلامية على 34 مقعدًا، وتمكنت من الهيمنة على معظم المقاعد المخصّصة للمسلمين البالغ عددها 40 مقعدًا.
وعكست النتائج الرؤية الجيوسياسية الأوسع التي بدأت تتبلور آنذاك، والتي شكّلت لاحقًا الأساس لاتخاذ القرارات السياسية المتعلقة بتقسيم شبه القارة الهندية.
واعتبرت الرابطة الإسلامية انتخابات عام 1946م فرصةً حاسمة لـتحويل الرأي العام لصالح فكرة "باكستان"، واستعدّت لها بحملة منظّمة ومدروسة بعناية. فبعد الضعف الذي أصابها عقب انتخابات عام 1937م، انتهجت الرابطة بحلول عام 1946م استراتيجية تنظيمية نشطة. وقد شملت هذه الاستراتيجية إعداد قوائم انتخابية منفصلة للمسلمين، وتكثيف الحملات الدعائية الخاصة داخل المجتمع المسلم، ما أسهم في توجيه المزاج الشعبي نحو دعم مشروع إقامة دولة مستقلة للمسلمين. وبذلك، نجحت الرابطة في تحويل الانتخابات من مجرد منافسة سياسية إلى معركة فكرية وهويّاتية.
وذكر فضل الرحمن في كتابه "أهمية انتخابات عام 1946م: تحليل لتعبئة الرابطة الإسلامية" أن "نجاح استراتيجية الرابطة الإسلامية كان واضحًا جليًّا في إقليمي البنغال والمقاطعات الشمالية"، حيث أظهرت الرابطة قدرتها على تحويل الأجندة الإسلامية إلى واقع انتخابي فعّال.
وأبرزت انتخابات عام 1946م تحول السياسة في شبه القارة الهندية نحو الانقسام الطائفي، حيث نجحت الرابطة الإسلامية في توحيد أصوات المسلمين عبر خطاب ديني وتنظيم فعال. وصوّت عدد كبير من المسلمين في بيهار لصالح الرابطة الإسلامية لاعتقادهم بأنها تعبّر عن مصالحهم الدينية، ما أدّى إلى تحوّل مباشر في مسار السياسة الوطنية نحو الانقسام الطائفي.
واعتمد حزب المؤتمر الوطني الهندي في انتخابات عام 1946م على تنظيم محلي فعّال وخدمة المجتمع، والتواصل المباشر مع الناس، مستفيدًا من خبرته في انتخابات 1937م لتعزيز حضوره بين الناس، وركّز على قضايا التعليم والإصلاح الزراعي والتنمية الاجتماعية، ما ساعده على ترسيخ نفوذه كقوة وطنية شعبية في الساحة السياسية الهندية.
وفي الوقت نفسه، سعى حزب المؤتمر الوطني الهندي إلى إبراز تمثيله داخل المجتمع المسلم من خلال منح ترشيحات لعدد من الشخصيات المسلمة الموالية والمثقفة، في محاولة لتأكيد طابعه الوطني الشامل، غير أن هذه الاستراتيجية لم تحقق النتائج المرجوّة بالكامل، إذ جاءت نتائجها متباينة بين نجاح محدود في بعض المناطق وفشل في كسب تأييد واسع بين المسلمين.
وتمثلت قوة حزب المؤتمر الوطني الهندي في امتلاكه تنظيمًا واسع الانتشار في المدن والريف على حد سواء، ما مكّنه من الوصول إلى مختلف فئات المجتمع. كما حرص الحزب على ترسيخ خطاب "الوحدة والشمولية" كرسالة وطنية جامعة، وهو ما منحه أفضلية واضحة في الدوائر العامة.
لقد شكّلت التركيبة السياسية والديموغرافية لولاية بيهار ملامح انتخابات عام 1946م بشكل واضح، إذ لعبت الخصائص الاجتماعية والاقتصادية للمسلمين، وطبيعة القيادة المحلية والسياسات الإقليمية، إضافة إلى قضايا الأراضي والنزاعات الزراعية، دورًا حاسمًا في المنافسة بين الرابطة الإسلامية وحزب المؤتمر الوطني الهندي.
ونجحت الرابطة الإسلامية في كسب تأييد المسلمين من خلال خطاب يقوم على الهوية الدينية، بينما ركّز حزب المؤتمر الوطني الهندي على جذب دعم الطبقات المهشمة والفلاحين عبر خطاب شعبي يقوم على الانتماء الطبقي والوعود بالإصلاح الزراعي. وفي الوقت نفسه، سعى الحزب إلى توحيد الأصوات الهندوسية بشكل رمزي لتوسيع قاعدة تأييده، مما مكّنه من تعزيز نفوذه السياسي وبناء تحالف اجتماعي أوسع نطاقًا في بيهار خلال انتخابات عام 1946م.
وأتاحت الاستراتيجية متعددة الأبعاد التي انتهجها حزب المؤتمر الوطني الهندي أن تتحول ولاية بيهار في عام 1946م إلى واحدة من الولايات التي تمكّن فيها الحزب من تشكيل حكومة بأغلبية واضحة. بينما نجحت الرابطة الإسلامية في انتزاع تأييد قوي من الناخبين المسلمين.
وفي عام 1946م، تبنّى حزب المؤتمر الوطني الهندي سياسة تهدف إلى ترسيخ فكرة "الهند الموحّدة" من خلال دمج المسلمين سياسيًا. وقد اعتمد الحزب على منح ترشيحات لقيادات مسلمة لإظهار طابعه الشامل، مع توجيه خطابه العام نحو تجاوز العداء بين الهندوس والمسلمين والتركيز على قضايا العدالة الاجتماعية والديمقراطية والوحدة الوطنية.
وسعى حزب المؤتمر الوطني الهندي إلى كسب بعض المقاعد الانتخابية عبر ترشيح شخصيات مسلمة من المثقفين وملاك الأراضي، بهدف تشتيت الأصوات المسلمة ومواجهة الخطاب الديني المتشدد للرابطة الإسلامية. لكن التحديات الميدانية كانت كبيرة، إذ فضّل معظم الناخبين المسلمين الانحياز لهويتهم الدينية في اختياراتهم الانتخابية، بينما لاقت أجندة الرابطة الإسلامية الداعية إلى إنشاء باكستان تأييدًا واسعًا، الأمر الذي أضعف تأثير استراتيجية حزب المؤتمر وحدّ من قدرته على استقطاب الأصوات المسلمة.
ورغم محدودية نجاحه الانتخابي بين المسلمين، فقد تمكن حزب المؤتمر الوطني من خلال ترشيح شخصيات مسلمة من الطبقة الوسطى المتعلمة من تعزيز حضوره الرمزي والثقافي وإيصال رسالة مفادها بأن المسلمين جزء أصيل من النسيج الوطني الهندي. وقد ساهم الموقع الاجتماعي الرفيع لهؤلاء المرشحين في تشتيت الأصوات داخل المجتمع المسلم، ما منح حزب المؤتمر قدرًا من الشرعية الانتخابية ومهّد لاحقًا لـمشاركة فاعلة للمسلمين في عملية صياغة الدستور الهندي.
وأوضحت انتخابات بيهار عام 1946م أن التحديات قبيل الاستقلال انتقلت من الجدل البرلماني إلى صراع الهويات المجتمعية، حيث أدّت استراتيجية حزب المؤتمر القائمة على القاعدة الاجتماعية الواسعة، والنفوذ الانتخابي للرابطة الإسلامية المبني على الهوية الدينية دورًا حاسمًا في توجيه مسار السياسة في شبه القارة نحو التقسيم.
اقرأ أيضًا: انتخابات بيهار عام 1937م.. حين بدأت الديمقراطية تخطو أولى خطواتها
وأبرزت تجربة بيهار التباين بين نهج المؤتمر القائم على القضايا الاجتماعية والاقتصادية ونهج الرابطة الإسلامية المعتمد على الهوية الدينية، وهو صراع سياسي انتهى بـتقسيم الهند عام 1947م.
فلم تكن انتخابات عام 1946م مجرد منافسة سياسية على المقاعد، بل كانت صراعًا حول ملامح الدولة المستقبلية وطبيعة التعايش بين الثقافات والهويات المتعددة في شبه القارة الهندية.