الدكتور ظفر دارك القاسمي*
يُعدّ الأطفال الركيزة الأساسية لبناء أيّ شعب وبلاد؛ فمستوى تعليمهم، ونوعية رعايتهم، وطريقة تربيتهم تمثّل عوامل مباشرة تُحدّد درجة السلام والتقدّم والازدهار في المجتمع. وعندما يتلقّى الأطفال قدرًا كافيًا من العناية والمحبة والتوجيه، تزداد قدرة الشعبعلى ترسيخ القوة والتحضّر. أمّا إهمال حقوقهم، فيؤدّي بصورة مباشرة إلى إضعاف بنية المجتمع ويُعرّض مستقبل البلاد للخطر.
ولإبراز هذه الحقيقة، تحتفل الهند بيوم الأطفال كلّ عام بوصفه مناسبة تذكيرية تهدف إلى إبراز مسؤوليتنا المشتركة في ضمان حقّ الأطفال في التعليم والرعاية الصحية والرفاه النفسي.
ومن منظور تاريخي-ديني، حدّد الإسلام بصورة واضحة الحقوق والواجبات المرتبطة بالأطفال. فقد ركّز القرآن الكريم وتعاليم النبي محمد ﷺ على ضرورة معاملة الأطفال بالرفق والعدل، والحرص على تعليمهم وتنشئتهم تنشئة صالحة. ومن المنظور الإسلامي، لا يُعدّ يوم الطفل مجرّد مناسبة احتفالية؛ بل هو تذكير مستمر بالمسؤولية الروحية والأخلاقية الملقاة على عاتق المجتمع، يُعيد التأكيد على واجب المجتمع في حماية الأطفال، وتوفير الرعاية لهم، والقيام بحقوقهم على أكمل وجه.
وقبل أن يضع العالم الحديث قوانينه لحماية الطفل، كان الإسلام قد سبق إلى اعتبار الأطفال أمانةً مقدّسة من الله. وقد وصفهم القرآن الكريم " زينة الحياة الدنيا". ويمثّل الأطفال مصدرًا طبيعيًا للبهجة في حياة والديهم، غير أن هذه البهجة تقترن بمسؤولية جوهرية تتعلّق بحسن تربيتهم وتوجيههم. ومن هذا المنطلق، قال النبي ﷺ: "كُلُّكُمْ راعٍ، وكُلُّكُمْ مَسؤولٌ عن رَعِيَّتِهِ"،— رواه البخاري. ويُؤكّد هذا الحديث أنّ الوالدين والأوصياء مسؤولون أمام الله عن رعاية الأطفال وتعليمهم وتكوين أخلاقهم.
وفي المجتمع ما قبل الإسلام، كانت بعض القبائل تمارس عادة وأد البنات، وهي ممارسة عنيفة أدانها الإسلام بشدّة؛ إذ يقول القرآن الكريم: "وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ"، — (التكوير).
وقد أعلن الإسلام أن كل طفل ــ ذكرًا كان أو أنثى ــ هو نعمة من الله، وله حقّ الحياة والكرامة والحماية. وأظهر النبي ﷺمحبة كبيرة للأطفال؛ فكان يلاعبهم، ويحملهم، ويهتمّ بمشاعرهم. وقال ﷺ: "مَن لا يَرحَم لا يُرحَم"، —(رواه البخاري).
ويقدّم هذا التوجيه النبوي رسالة واضحة بأن العاطفة والرحمة عنصران أساسيان في تكوين الطفل وجدانيًا وأخلاقيًا. وليس من المصادفة أن تكون أوّل كلمة نزلت من القرآن هي "اقرأ"، في دلالة مباشرة على أن المعرفة تمثّل الأساس الذي تُبنى عليه العقيدة. وقد رسّخ النبي ﷺهذا المبدأ بقوله: "طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة". وقال أيضًا: "حقّ الولد على والده أن يعلّمه حسن اسمه وحسن أدبه"، في إشارة إلى أن التربية تشمل الهوية الأخلاقية والسلوك الاجتماعي منذ السنوات الأولى من حياة الطفل.
وهكذا يرسّخ الإسلام مبدأ التعليم — بشقّيه المعرفي والأخلاقي — بوصفه واجبًا أساسيًا تشترك الأسرة والمجتمع في تحمّله. ويأتي دور الوالدين في مقدمة هذه المسؤوليات. إذ يتولّيان توفير حاجات الطفل من غذاء وكساء ورعاية. وقد نصّ القرآن الكريم على هذا الالتزام صراحةً في قوله تعالى: "وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ"—،(البقرة: 233). وقال ﷺ: "اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم"، —(رواه البخاري).
فالعدالة بين الأبناء تُنتج بيئة أسرية يسودها الحب والانسجام، بينما يؤدّي التفضيل والتمييز إلى توتّر العلاقات واهتزاز استقرار الأسرة. وفي المنظور الإسلامي، لا يُختزل التعليم في اكتساب المعلومات، بل يمتد ليشمل بناء الشخصية وتكوين منظومة القيم. فالطفل الذي يُربّى على أسس صحيحة يصبح بركة مستمرة في حياة والديه. وقد أوضح النبي ﷺهذا المعنى بقوله: "إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم يُنتفع به، أو ولد صالح يدعو له"،—(رواه مسلم).
وترمي التربية الإسلامية إلى تنمية الإيمان والصدق والعدل والرحمة وروح الاجتهاد، وإلى غرس حبّ الوطن والخير في النفس؛ فهي تربية متكاملة تُهيّئ الطفل ليكبر إنسانًا مسؤولًا يشارك في بناء المجتمع وتعزيز استقراره.
ويذكّرنا يوم الطفل بواجبنا في تأمين مستقبل أفضل للأجيال القادمة، ليس بالراحة والنجاح فقط، بل بالإيمان والقيم أيضًا. وقد قال الله تعالى: "وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ"،—(الحشر: 18). ويشير ذلك إلى أن دور الوالدين والمعلّمين والقادة هو إعداد الأطفال للحياة عبر التعليم والانضباط والرحمة، حتى ينشأوا قادرين على مواجهة المستقبل بثقة وتحمل المسؤولية.
ومع ذلك، لا يزال ملايين الأطفال في الهند يواجهون الفقر وسوء التغذية وغياب التعليم. فكثير منهم يُجبرون على العمل في سنّ مبكرة، أو يُحرمون من الدراسة، خاصة الفتيات في المناطق الريفية. وتذكّرنا هذه التحديات بأن الاحتفال الحقيقي لا يكتمل بالكلام فقط، بل يحتاج إلى عمل وجهد على أرض الواقع.
ويرى كلٌّ من الإسلام والهند الحديثة أن الأطفال هم المستقبل الحقيقي لأي أمّة. فكلاهما يؤكد على المحبة والتعليم والحماية، وإنْ كان المنطلق مختلفًا؛ فالإسلام يعدّ هذه الواجبات عبادات يتقرّب بها الإنسان إلى الله، بينما تراها الدولة مسؤوليات قانونية واجتماعية. فالأطفال في نظر المسلمين أمانة مقدّسة من الله، وفي نظر الدولة هم قوّة الأمة وأملها.
وتحتفل الهند بيوم الطفل في 14 نوفمبر، ذكرى ميلاد جواهر لال نهرو، الذي كان يؤمن بأن مستقبل البلاد يعتمد على تعليم الأطفال وسعادتهم. وكان يحلم بجيلٍ واعٍ ومتعلم.
اقرأ أيضًا: مولانا أبو الكلام آزاد.. ضمير الهند وصوت الوحدة في زمن الانقسام
ويتقاطع هذا الحلم مع رسالة الإسلام الخالدة في الرحمة والعدل ورعاية النشء. فإذا أُحيي يوم الطفل بروح القيم الإسلامية، فإنه يتحوّل من مناسبة احتفالية إلى تذكير أخلاقي بضرورة محبة كل طفل ورعايته وتعليمه. كما قال النبي ﷺ: "خيركم خيركم لأهله".