قمر شعبان الندوي*
في اليوم الحادي والثلاثين من يوليو عام 1880م، وُلد مولود ذكر في إحدى القرى الهندية النائية، المتخلفة عن ركب الحضارة والثقافة، وذلك في أسرة صغيرة متواضعة. ولم يكن من الممكن آنذاك التنبؤ بأنه سيصبح لاحقًا شخصية بارزة في تاريخ الأدب الهندي والأدب العالمي، وأنه سينال من الأدباء والنقاد لقب "إمبراطور الرواية" في الهند؛ هذا البلد الشاسع الأطراف، الفريد في تنوّعه الثقافي والحضاري، وتعدده الديني واللغوي. وقد تبوأ هذا الكاتب مكانة الصدارة والريادة والابتكار في عالم الإبداع الأدبي، الذي خرج بلغتين أدبيتين من أكثر اللغات حيويةً وعطاءً في الهند، وهما: اللغة الأردية، واللغة الهندية البراكريتية. وهو، بحسب تعبير النقاد والأدباء الهنود، أول كاتب هندي وضع اللبنة الأولى للقصة في اللغة الأردية، وهو الذي يُعزى إليه الفضل كله أو جله في تخليد القصة الأردية كذلك.
وسمي المنشئ بريم تشاند عند ولادته بـ"دهانبات راي"، ثم عرف باسم "نواب راي"، ونهائيا اختار له المسمى الذي اشتهر في عالم العلم والأدب: "منشئ پریم چند" (المنشئ بريم تشاند). وإن القرية الني نالت الشهرة من أجله في العالم هي قرية لاماهي؛ الواقعة على الجانب الشمالي من مدينة بنارس/ فارانسي على بعد ستة كم تقريبا من وسط المدينة. وكان والده عجائب لال موظفا حكوميا في مصلحة البريد على راتب غير كاف لنفقات العائلة؛ فنشأ بريم تشاند منذ أن أبصر النور على معاناة من الفقر والبؤس والحل والترحال، كما أنه أكمل دراساته حتى درجة البكالوريوس بتخلل وتقطع؛ ونال الثانوية عام 1899م ثم أجبرته الظروف العائلية الاقتصادية الحرجة على العمل في وظائف غير منتظمة، فلم يستطع تحصيل البكالوريوس إلا بعد عشرين سنة من ذلك في 1919م، وذلك من جامعة الله آباد. وكان بريم تشاند مطبوعا بالطابع الإبداعي والوطني، فإنه توظف في وظائف متعددة من الصحافة والتدريس إلى أن تقلد منصب مفتش تعليمي مساعد؛ ولكنه انعزل عن الوظيفة للانسلاك إلى حركة تحرير البلاد عام 1921م، وظل كاتبا وطنيا ومبدعا بارزا، وروائيا من أفحل الروائيين، وقاصا من عمالقة القصصين، حتى لقب بـ"إمبراطور الرواية" في الهند لأصالته، ونبوغه، وابتكاره في هذا المضمار.
منجزاته الإبداعية
المنشئ بريم تشاند مبدع هندي أصيل؛ حاول تصوير المجتمع الهندي، ومعاناة الشعب الهندي تحت براثن الاستعمار الإنكليزي، وحالات العطالة والبطالة، والفساد في الأخلاق والتعامل والسلوك، والتمييز العنصري والعرقي المسفر عن تحطيم الخيوط المتداخلة للأسر والعوائل في أسلوب ليس هو بالأسلوب المستورد من أساليب الغرب؛ بل هو أسلوبه الخاص والخالص. وإن سردياته القصصية، وشخصياته الروائية، والحبكة، والعناصر الأخرى كلها تمثل معظم ما تعتوره المجتمعات الهندية من شتى أنواع الظروف القاسية والحرجة للمستويات البشرية في الهند؛ حياة الريف، وحياة التحضر، وحياة العمال، وسلوك أصحاب المناصب مع موظفيهم، ومعاملات العقاريين، وتعامل أصحاب الثراء والرخاء، وتغلغل الإنكليز إلى عروش حكم النواب والأمراء الهنود بالظلم والاضطهاد، وغفلة الهنود وسباتهم العميق في مثل هذه الظروف. وإن المنشئ بريم تشاند هو المبدع المكثر الذي يجتاز عمله القصصي ثلاث مئة قصة تقريبا، فإنه في خضم هذه الإنجازات يرسم كل أنواع المعاناة بريشة قلمه السلسال المبتكر، فيستهل رحلته الكتابية بما هو المرآة الصافية، والانعكاس الأنيق والبديع للاستماتة في سبيل الحرية، وحب الوطن؛ فإن أول مجموعة قصصية مشتملة على خمس قصص: "عشق الدنيا وحب الوطن، والجوهر الفرد للعالم، والشيخ مخمور، وإن هذا لوطننا، وجزاء العزاء" تحكي لنا وطنيته، وعمق تفكيره للحرية، ومن الجدير بالذكر أن هذه المجموعة المعنونة بـ"لهيب الوطن" التي صدرت عام 1908م، تحت اسمه القلمي نواب راي هزت الإنكليز هزا عنيفا، إيمانا بأنها ثورة ضدهم، ومناشدة قوية لتحرير البلاد من براثنهم، فأحرقوا الكتاب؛ فإنه بعد ذلك أنجز معظم أعماله الروائية، والقصصية، والمسرحية، والنقدية، والصحافية باسمه المعروف "منشئ بريم تشاند".
ولقد صدرت له العديد من المجموعات القصصية ذات الاتجاهات الاجتماعية، والخلقية، والتربوية، والوطنية، متسمة بنظريات رمزية، ورومانسية، وواقعية بما فيها القصص الواقعية والخيالية والتاريخية والشعبية متضمنة القصص التراجيدية والدرامية كذلك. ومن دون شك، يعد بريم تشاند من أفحل المبدعين الهنود، الذين تركوا بصمات قوية وعميقة في الأوساط العلمية والأدبية والفكرية والفلسفية والتاريخية والسياسية على مستوى الوطن؛ وإلى حد كبير على مستوى العالم كذلك. وذلك من أجل فكره، وخياله، وجده، ولمواجهاته المباشرة للمعاناة ما واجهتها الطبقات المختلفة للمجتمع الهندي؛ وذلك كله ما بعث أصحاب اللغات الأخرى على ترجمة أعماله بلغاتهم وآدابهم. وبالتالي، لقد ترجمت بعض أعماله إلى الإنكليزية، والروسية، والسنسكريتية، والبنغالية، والمليالية، ولغة التلغو، والإسبانية، والعربية.
وإن روايته "غودان" من أروع الروايات الهندية للمنشئ بريم تشاند، لقد تم نقلها إلى العربية بعنوان "القربان" بقلم الكاتبة المصرية رانيا محمد فوزي، وبمراجعة وتقديم أحمد محمد عبد الرحمن، وكذلك تم نقل العديد من قصصه إلى العربية على يد الأستاذ الدكتور جلال السعيد الحفناوي من مصر، كما وقد صدرت لكاتب هذه السطور حتى الآن ترجمات عربية لثلاث عشرة قصة من أجدرها بالذكر: الكفن، وفي يوم العيد، ولاعبا الشطرنج، ومراقب مصلحة الملح، وبئر السقاء، وطريق النجاة، ودعوة المظلومة، وثمن الرضاعة، والثورة، وشقيقتان، والعمة العجوز، وليلة من ليالي الشتاء، والإكسير. وإن عملية الترجمة لا زالت مستمرة.
ومن أبرز مجموعاته القصصية: سوز وطن (لهيب الوطن)، وبريم بجيسي (مجموعة الخمس والعشرين)، وبريم بتيسي (مجموعة الاثنين والثلاثين)، وبريم جاليسي (مجموعة الأربعين)، وآخري تحفة (التحفة الأخيرة)، وزاد راه (زاد الطريق). وله إلى جانب القصص القصيرة أعمال روائية بارزة نالت الإعجاب والشهرة والمكانة بالأردية والهندية كلتيهما، ومن أجدرها بالذكر: بازار حسن (سوق الجَمال/ المأخور)، وكوشة عافيت (ركن الراحة والهدوء)، وجو غان هستي، ونرملا، وميدان عمل، وغو دان.
وخلف بريم تشاند بحوثا ومقالات علمية ونقدية وفكرية جادة أيضًا، ونظريته تجاه الأدب والإبداع تتمثل في هذه العبارة البليغة التي كان ألقاها في خطبته الرئاسية لمؤتمر نادي الكتاب التقدميين بلكناؤ في 15 أبريل 1936م حيث قال: "في رأيي، ليس الأدب أدبا إلا أن يكون متسما بعمق التفكير، وعاطفة الحرية والتحرير، والروعة البيانية، والروح البناءة، والوميض الدافق للحياة، ما يبعثنا على التحرك، والتموج، والتدفق، بدل أن يكون مثبطا يفضي إلى الغفلة والسبات، لأن السبات، بعد الآن، شارة واضحة للموت".
وإن بريم تشاند غيّر مجرى الأدب الأردي والهندي من أدب اللهو والمتعة إلى أدب يعالج القضايا الاجتماعية والسياسية التي تؤتي أكلها، وتثمر. وتلفت أنظار الدارسين، والأدباء، والكتاب إلى الأدب الحي المثالي الذي يتطلع إليه الفرد والمجتمع. وإن المبدع الناجح في رأي بريم تشاند ما يكون متحليا بما هو آتي: "إن الرواية المثالية هي التي تعتمد على حقيقة نفسية؛ فإن الرجل السيء لا يكون سيئا بالأساس؛ لأنه، حتما، يحمل الجوهر الملائكي أيضًا. وإن المبدع الناجح هو من يستطيع أن يفجر ذلك الينبوع الملائكي المكنون داخل ذلك الرجل".
وإنه بعد تأليف روايته الرائعة "غودان" (القربان)، لفظ أنفاسه الأخيرة في 8 أكتوبر 1936م، وانغلق على وفاته باب من أبواب الإبداع الهندي الأصيل، الذي لم يتهيأ للآخرين أن يسدوا هذا الفراغ الإبداعي الهائل، وهذه الفجوة الأدبية الكبرى.
* أستاذ مساعد في قسم اللغة العربية بجامعة بنارس الهندوسية، فارانسي، الهند.