مجيب الرحمن*
عندما تسمع عن "الماخانا"، أو "بذور الثعلب" كما تُسمى أحيانًا، قد تتخيل وجبة خفيفة بسيطة. لكن هذا الطعام، المعروف أيضًا باسم "فوكس ناتس"، أكثر من مجرد حبات بيضاء فاتحة تشبه الفشار. الماخانا كنز زراعي فريد يزدهر في قلب شرق ولاية بيهار بالهند، التي تُعدّ الآن أكبر منتج لهذا المحصول في العالم. وفي العقود الأخيرة، تحوّل الماخانا من غذاء تقليدي يُزرع في البرك الراكدة إلى صناعة مزدهرة ذات قيمة اقتصادية وصحية كبيرة، ويُصنّف ضمن الأغذية الفائقة التي يطمح إليها عشاق الصحة في كل مكان.
ويعود تاريخ الماخانا في الهند إلى زمن بعيد، لا سيما في منطقة ميثيلا التاريخية، أو "ميثيلانشال" كما يُطلق عليها سكان بيهار. وكان المزارعون هناك يجمعون البذور من المستنقعات والبرك الراكدة، ويستخدمونها كغذاء يومي أو حتى كعلاج شعبي. وأشادت الأيورفيدا، الحكمة الهندية القديمة، بفوائد الماخانا في تعزيز الطاقة وتحسين الصحة. وحتى اليوم، لا تزال عملية حصاد الماخانا تحتفظ بسحرها التقليدي: تبدأ بزراعة نبات الثعلب المائي في المسطحات المائية. ثم يغوص المزارعون لاستخراج البذور من القاع، وتجفيفها بعناية، وتقشيرها، ثم تحميصها حتى تنتفخ وتتحول إلى فشار أبيض لذيذ. وبينما بدأ استخدام بعض الآلات الحديثة في التقشير والتحميص، تظل خبرة المزارعين ومهارتهم اليدوية العمود الفقري للعملية.
وما يجعل الماخانا مميزة حقًا هو قيمتها الغذائية الاستثنائية. فهي غنية بالبروتين والألياف، ومليئة بالمعادن مثل المغنيسيوم والبوتاسيوم والفوسفور، ومع ذلك فهي منخفضة جدًا في الدهون. وهذا المزيج جعلها نجمة في عالم الأطعمة الصحية، سواء لمن يبحثون عن اللياقة البدنية أو اتباع نظام غذائي متوازن. وفي المطبخ الهندي، تُعدّ الماخانا ذات الاستخدامات المتعددة: يُمكن تحميصها مع بعض التوابل لتكون وجبة خفيفة مثالية مع فنجان الشاي الصباحي، أو إضافتها إلى أطباق تقليدية مثل "خير ماكانا"، وهي حلوى لذيذة مصنوعة من الأرز والحليب. وحتى في المطابخ العالمية، بدأت الماخانا بالظهور كرقائق صحية أو كمكوّن في السلطات والصلصات. ويُوصي بها الأطباء لمرضى السكري أو ارتفاع ضغط الدم نظرًا لانخفاض مؤشرها الجلايسيمي. كما أنها خيار مُفضّل للنباتيين ومن يتبعون حميات غذائية لإنقاص الوزن.
وتتصدر ولاية بيهار العالم في إنتاج الماخانا، حيث تُنتج حوالي 85% من إجمالي إنتاج الهند. وفي موسم 2023-2024، بلغ الإنتاج حوالي 56,400 طن من البذور، مزروعة على مساحة 27,800 هكتار. ومن المثير للاهتمام أن المساحة المزروعة قد تضاعفت تقريبًا خلال عقد من الزمن، من 13,000 هكتار في عام 2012م إلى أكثر من 35,000 هكتار في عام 2025م. كما تشهد الصادرات نموًا ملحوظًا، لتصل إلى حوالي 32.3 ملايين دولار أمريكي في عام 2024م، مع تصدير أكثر من 15,350 طنًا إلى دول مثل الولايات المتحدة الأمريكية وكندا والمملكة المتحدة والإمارات العربية المتحدة وأستراليا. ومع ذلك، لا يزال الاستهلاك المحلي في الهند ضخمًا، مما يجعلها أكبر منتج ومستهلك لهذا الغذاء.
وقد أدّت مراكز البحوث الزراعية في بيهار دورًا رئيسًا في تعزيز هذه الصناعة. وقد زادت أصناف مثل "سوارنا فايدهي" و"سابور ماخانا-1 " بشكل ملحوظ، من 16 قنطارًا للهكتار إلى 28 قنطارًا. وفي خطوة مهمة، مُنحت الماخانا من منطقة ميثيلا منزلة المؤشر الجغرافي المحمي (GI-Tag)، مما يمنحها مكانةً خاصةً في الأسواق العالمية تحت اسم "ميثيلا ماخانا". ولكن التحديات لا تزال قائمة. ولا تزال العملية تعتمد بشكل كبير على العمل اليدوي، وهناك نقص في البنية التحتية للتعبئة والتخزين التي تلبي المعايير الدولية. كما يُلقي تغير المناخ بظلاله، حيث تُهدد موجات الجفاف وعدم انتظام هطول الأمطار هذا المحصول المائي، مما يؤثر على سبل عيش آلاف الأسر الريفية التي تعتمد على الماخانا كمصدر دخلها الرئيس.
وتبذل الحكومة الهندية، بالتعاون مع حكومة بيهار، جهودًا لدعم هذه الصناعة. وتهدف برامج مثل "ماخانا فيكاس يوجانا" (مشروع تطوير الماخانا) إلى تطوير الإنتاج، بينما تُشجع الجامعات الزراعية الزراعةَ العضوية في مناطق مثل "بورنيا" لفتح أسواق جديدة في أوروبا والأمريكتين، حيث يتزايد الطلب على الغذاء المستدام. وقام رئيس الوزراء ناريندرا مودي بافتتاح "هيئة ماخانا الوطنية" في مدينة بورنيا بولاية بيهار في 15 سبتمبر 2025م بأهداف معينة تتمثل في تعزيز إنتاج الماخانا، وتحسين ما بعد الحصاد وإدارة المخزون، وإضافة القيمة وتحسين المعالجة، والتسويق والتصدير وضمان أفضل الأسعار للمزارعين، وتمكين جمعيات المنتجين والمزارعين الصغار.
ومع تزايد الطلب على الأطعمة الغنية بالبروتين والخالية من الغلوتين، يبدو مستقبل الماخانا واعدًا. ويتوقع الخبراء معدل نمو سنوي يبلغ حوالي 10%، مما يجعل هذا المحصول الريفي البسيط ليس مجرد طعام محلي شهي، بل رمزًا للنجاح الزراعي الهندي، ويضع بيهار على خريطة الغذاء الصحي العالمية.
*أستاذ بمركز الدراسات العربية والإفريقية ورئيسه سابقًا، جامعة جواهر لال نهرو، نيودلهي.