الدكتور ظفر دارك القاسمي*
يتم إحياء ذكر صباح الدين عبد الرحمن اليوم باعتباره أحد العلماء البارزين الذين أسهموا بعمق في ترسيخ روح الوئام بين الهندوس والمسلمين وتعزيز قيم التعايش في الهند. وقد توفّي في هذا اليوم من عام 1998م عن عمرٍ بلغ 76 عامًا.
وينحدر صباح الدين في الأصل من قرية ديسنا في منطقة باتنا بولاية بيهار. وقد شهدت مسيرته الفكرية منعطفًا حاسمًا عام 1935 عندما التحق بـ"دار المصنّفين"، المؤسسة المعروفة بدورها في البحث التاريخي والثقافي. وهناك توسّع اهتمامه بدراسة تاريخ الهند، وفهم التفاعلات الثقافية والاجتماعية والسياسية بين مكوّناتها المتنوّعة.
وسلّط صباح الدين الضوء على البنية العميقة للتعايش الهندي، القائمة على التماسك الاجتماعي والقيم المشتركة والاحترام المتبادل بين المكوّنات المختلفة. ومن خلال دراسته المتأنّية لتاريخ الهند في العصور الوسطى، كشف عن نماذج كثيرة تُظهر مدى التسامح والانفتاح الديني الذي اتّبعه الحكّام المسلمون آنذاك. وقد أثمرت هذه الجهود في عمله الشهير المكوّن من ثلاثة مجلّدات "هندستان کے عہدِ ماضی میں مسلم حکمرانوں کی مذہبی رواداری" في اللغة الأردية، الذي يُعدّ من أهم الدراسات في هذا المجال.

ووثّق صباح الدين، في هذه الدراسة الموسوعية، ممارسات عدد من الحكّام المسلمين، وبينهم المغول، الذين عملوا على تعزيز التعايش السلمي وتشجيع التبادل الثقافي. ويقدّم كتابه إسلام میں مذہبی رواداری» (التسامح الديني في الإسلام) سردًا تحليليًا لهذه النماذج، مسلّطًا الضوء في الوقت نفسه على الأسس التي يقوم عليها الإسلام في مجالات العدالة والرحمة وصون كرامة الإنسان.
ويتكرّر في جميع كتاباته محورٌ جوهري يتمثّل في إيمانه العميق بأنّ تنوّع الهند هو مصدر قوّتها الأكبر. فقد شدّد باستمرار على أنّ الحضارة الهندية تشكّلت من خلال تفاعلٍ طويل بين أديان متعددة، ولغات متنوّعة، وتقاليد ثقافية غنية. وتبرز أعماله في إبراز الجوهر الإنساني للمجتمع الهندي، القائم على الشمولية، والثقافة المركّبة، وروح الوئام التي صمدت عبر الزمن.
وأوضح ن الحكّام المسلمين التزموا إلى حدّ كبير بمبادئ التسامح، إذ حافظوا على علاقات وثيقة مع المجتمعات المحلية، واحترموا العادات الدينية، وسمحوا باستمرار العمل بالقوانين الشخصية، كما عيّنوا عددًا من الهندوس في مناصب إدارية مهمّة.

وتُظهر قراءته التحليلية لسياسات الحكم المغولي أنّ مبادرة الإمبراطور أكبر بترجمة النصوص الهندوسية المركزية—ويدا والماهابهارتا والرامايانا والأوبنشاد—إلى الفارسية لم تكن مجرّد مشروع ثقافي، بل فعلًا سياسيًا وفكريًا مقصودًا يهدف إلى إعادة تشكيل أرضية التلاقي بين الجماعات الهندية المتعدّدة.
وتتصدى كتاباته للفكرة الحديثة الخاطئة التي تزعم أن الحكّام المسلمين مارسوا القمع بشكل موحّد ضدّ السكان الهندوس. وبالاستناد إلى مصادر تاريخية متنوّعة، توصّل إلى أن مثل هذه المزاعم تنشأ في الغالب من قراءات انتقائية للتاريخ. وقد نبّه إلى أن تشويه إسهامات أي جماعة ينعكس سلبًا على القيم الدستورية والديمقراطية للهند. وأكّد أن الفهم المتوازن للماضي ضرورة أساسية للسلم الأهلي وتعزيز الثقة المتبادلة في الحاضر.
كما أشار إلى أن أتباع الديانات المتعددة في الماضي كانوا، في الغالب، يتحلّون بقدرٍ كبير من الاحترام المتبادل، وروح التعاون، والنوايا الطيبة تجاه بعضهم البعض.

وفي ظلّ مناخ التوترات الاجتماعية والصراعات الثقافية اليوم، تأتي كتابات سيّد صباح الدين عبد الرحمن كتذكير قوي بالإرث المشترك الذي قامت عليه الهند. فجهوده الفكرية تعيد إحياء منظومة القيم الجماعية القائمة على الفهم المتبادل، والنضج الإنساني، والانسجام الثقافي—وهي مقوّمات لا غنى عنها لبناء مجتمع يسوده السلام والتعايش.
ومن خلال تتبّعه لتاريخ الهند الغني بالحوار الديني والتبادل الثقافي، شدّد على أن معالجة الخلافات الاجتماعية يكمن في المعرفة والصبر والحوار الجاد. فالمجتمعات لا تُبنى بالقوة أو الهيمنة، بل بالتعاطف والانفتاح والتفاعل البنّاء بين أبنائها.
اقرأ أيضًا: حين يلتقي الواجب الشرعي بالواجب المدني: حماية الطفل رسالة مشتركة
ويبقى إرث سيّد صباح الدين عبد الرحمن العلمي مصدر إلهام لكل منيسعى إلى ترسيخ الوئام في وطنٍ متعدد المكوّنات. وتؤكد كتاباته أن مستقبل البلاد يتوقّف على تعزيز الروابط التي وحّدت أهلها عبر الزمن — روابط الاحترام، والإرث المشترك، والثقة المتبادلة.