.jpg) 
                                 
دانش علي*
على مدى سنوات طويلة، ظلّ اسم بولواما يستحضر في الذاكرة الجماعية مشاعر الخوف والغضب والفاجعة، باعتباره مرادفًا للحركات المسلحة، والتشييعات الضخمة للمسلحين، وتفجير عام 2019م الانتحاري الذي هزّ الهند، مما أضفى على المنطقة وصمةً يصعب محوها. ففي التربة ذاتها تنبثق اليوم رواية جديدة، تحمل دلالات الأمل والصمود.
ويتصدّر هذا التحوّل مدثر دار، الناشط الاجتماعي البالغ من العمر ثلاثين عامًا، ينحدر من قرية مغل بورا. ويتمحور مشروعه حول إنقاذ شباب كشمير من براثن الانفصالية والمخدرات والعنف، وإعادة توجيه طاقاتهم نحو السلم والتنمية.
ووُلِد مُدثر وترعرع في منطقة وُصِمت بكونها بؤرةً للإرهاب، غير أنّ مسيرته اتخذت منحى مغايرًا منذ أيام دراسته الأولى، حين انخرط في المنظمة العالمية للحركة الكشفية. وبعد أن تعهد بخدمة الإنسانية في إطار الحركة الكشفية، ظلّ متمسكًا به في سنوات نضجه، ليُتوَّج لاحقًا بالحصول على جائزة رئيس الجمهورية (راشتراباتي أوارد) وجائزة الحاكم (راجيا بوراسكار) تكريمًا لإسهاماته البارزة في ميدان الخدمة الاجتماعية.
	
وجاء التحوّل المفصلي في مسيرة مدثر عام 2014م، مع الفيضانات العارمة التي اجتاحت الوادي وأغرقت مناطق واسعة. ففي خضم الأزمة، حشد المتطوعين وأدار عمليات الإغاثة في بُلواما وشوبيان، عبر توفير الغذاء والبطانيات والرعاية الطبية. وكانت تلك التجربة بمثابة أول اختبار عملي له في ميدان النشاط الجماهيري واسع النطاق. وأكدت تلك التجربة إيمانه بأن الطاقات الشبابية، متى ما جرى توجيهها وتعبئتها بفاعلية، تملك القدرة على التفوّق على الآليات الحكومية في سرعة الوصول إلى المتضرّرين.
وإنّ الهجوم الإرهابي الذي وقع في بولواما في فبراير 2019م، وأودى بحياة 44 عنصرًا من قوات الشرطة الاحتياطية المركزية شكّل منعطفًا حاسمًا غيّر مسار مُدثر بصورة جذرية. ويستعيد مُدثر تلك اللحظة المفصلية حين كان يرافق ابنَ عمّه المريض في دلهي بعد الهجوم بوقت قصير، ورُفض منحه الإقامة في أحد فنادق دلهي لمجرّد أنّ بطاقة هويته تحمل عنوان بولواما.
ويؤكّد مُدثر قائلاً: "لقد شكّلت تلك اللحظة نقطة تحوّل غيّرتني إلى الأبد. فإذا كان بعض الأفراد قد انحرفوا نحو درب الإرهاب، فهل من العدل أن يُحمَّل الإقليم بأسره وصمةً لا ذنب له فيها؟ لقد كان ذلك اليوم بداية عهدي على نفسي بأن أعمل لتغيير صورة بولواما في عيون العالم".
وتجسّد ذلك التعهّد على أرض الواقع؛ إذ انطلق مدثر في جولات ميدانية لتوعية الشباب في القرى التي ينتشر فيها العنف في وادي كشمير. وفي قرية ليلهار، ، المعروفة بجنازات المسلحين، أقنع مدثر شابًا، فقد شقيقته في تبادل إطلاق نار، بالتراجع عن الانضمام لجماعة مسلّحة، مبيّنًا أن الجهاد الحقيقي هو حماية الأرواح. واليوم أصبح ذلك الشاب موظفًا في دائرة تنمية الطاقة في جامو وكشمير.
وانطلاقًا من ثقته بأن الفراغ يغذي الانحراف، تبنّى مدثر نهج "دبلوماسية الرياضة"، فقام بتنظيم بطولات كريكيت في قرى مثل ليلهار وكريم آباد وغلزاربورا، والتي كانت تُعد سابقًا "مناطق محظورة". وحوّل الملاعب إلى ساحات تزخر بالتشجيع والتنافس وروح الوحدة.
وفي قرية ليلهار، نظّم مدثر أول رفع تاريخي للعلم الوطني، حضره آلاف القرويين الذين أرادوا التعبير عن انتمائهم للهند والتأكيد أن بولواما ليست مجرد عنوان لمأساة، بل حكاية صمود وإصرار.
	.jpg)
وبالتوازي مع جهوده في مواجهة التطرف، يخوض مدثر معركة ضد إدمان المخدرات الذي يودي بحياة الشباب، من خلال حملات توعية، إضافة إلى إشراك الطلاب في الرياضة والتعليم وبناء المهارات. وخلال إغلاق عام 2019م، وزّع مواد تعليمية على مئات الطلاب، وأسطوانات أكسجين وأدوية وطرودًا غذائية لأكثر من 500 أسرة، ما أكسبه احترامًا واسعًا محليًا ورسميًا، ودفع مسؤولي المناطق إلى دعوته باستمرار للتعاون في مبادرات لخدمة المجتمع.
واتخذ مُدثر، على خلاف كثيرين ممن يختارون الصمت أمام العنف، موقفًا حاسمًا ورفض الصمت أمام العنف، وقاد مبادرات سلمية كالمسيرات المناهضة للإرهاب والوقفات التضامنية مع الأقليات المستهدفة في بولواما وخارجها.
ويؤكد مدثر قائلاً: "لقد قتل الإرهابيون أساتذتنا، وجيراننا، وإخوتنا. وإنّ الصمت أمام ذلك تواطؤ صريح. وأريد للشباب أن يفهموا أنّ الجهر بالسلام ليس ضعفًا، بل هو جوهر القوة الحقيقية ومصدر التغيير".
ويتجلّى أثر جهود مُدثر في التحوّلات السياسية التي تشهدها بولواما وما بعدها؛ فقرى كانت تقاطع الانتخابات بالأمس، أصبحت اليوم تُظهر حضورًا انتخابيًا لافتًا عند صناديق الاقتراع. ويؤكد قائلاً: "في الانتخابات البرلمانية الأخيرة، سجّلت قرية ليلهار أكثر من 700 صوت من أصل 1100 ناخب، وهو مؤشر جليّ على أنّ الناس ضاقوا ذرعًا بخطاب الانفصال، وباتوا يتطلعون إلى أن يكونوا جزءًا من العملية الديمقراطية".
ويؤكّد مُدثر أنّ هذا التحوّل لا يُعزى إلى توجيهات الحكومة أو قراراتها، بل إلى الحراك الذي أطلقه الشباب بأنفسهم. ويضيف: "على مدى أعوام، تركنا السياسيون في فراغ قاتل سرعان ما استثمره المسلّحون، غير أنّ هذا الفراغ نفسه بات يُعاد تشكيله اليوم على يد الشباب بروح إيجابية ومسار تنموي".
وقد تجاوزت قصة مُدثر حدود بولواما، إذ باتت وسائل الإعلام الوطنية وصنّاع القرار يستشهدون بها كنموذج لبناء السلام من القاعدة الشعبية. ومع ذلك، يظلّ متواضعًا في رؤيته، قائلاً: "إنني أقوم بواجبي فحسب. وحلمي البسيط هو أن لا يحمل أي طفل كشميـري السلاح، وأن تُعرَف قرانا ببطولات الكريكيت لا بمواكب الجنازات".
	
ويواجه مُدثر انتقادات من خصومه، وغالبهم من المتعاطفين مع التيار الانفصالي، إذ يعتبرونه "مخبرًا". لكنه يتجاوز ذلك بثبات، قائلاً: "عندما أرى الفتيان الذين سخروا منّي في الماضي ينادونني اليوم بالأخ مدثر ويطلبون نصيحتي، أدرك أنني أسير على الطريق الصحيح".
ورغم اتهامات خصومه ووصفه بالمخبر، يواصل مُدثر مساره بثبات، مستشهدًا بتغيّر نظرة الشباب نحوه كدليل على صواب طريقه. وبرغم تحديات المخدرات وتجدد محاولات التجنيد المسلّح، يتمسّك بإيمانه بأن التغيير مسار طويل، وأن كل إنجاز صغير يمثل خطوة نحو كشمير أفضل.
ويواجه مدثر دائمًا خطاب الانفصالية والنزعة الانفصالية في كشمير عبر مقالاته التحليلية وكتاباته السياسية في الصحف الوطنية الكبرى. وتمثّل أعماله خطابًا مضادًا طال انتظاره في مواجهة عقود من الدعاية التي مجّدت الإرهاب وهمّشت ضحاياه. وفي المقابل، حمل مُدثر راية السلام والحوار، ودافع عن تمكين الكشميريين العاديين الذين يتطلّعون إلى حياة خالية من الخوف.
وكان مُدثر في طليعة المبادرة — بل العقل المدبّر لها — التي أعادت العدالة المنشودة لضحايا الإرهاب في كشمير. فقد تواصل شخصيًا مع نحو 400 أسرة، ووثّق قرابة 1000 ضحية للإرهاب. وهذه العائلات لم تكتفِ بمعاناة الفقدان والدمار الذي خلّفته النزعة المسلّحة، بل واجهت كذلك عزلة اجتماعية قاسية بعدما نبذتها مجتمعاتها وتخلّى عنها النظام. وعلى امتداد عقود، عاشت هذه الأسر في صمت مطبق يخيم عليه الخوف من أن يُوصم أفرادها بـ"المخبرين" إذا تجرّأوا على رفض السردية الانفصالية الإرهابية السائدة.
اقرأ أيضًا: تحول تاريخي: "سياسة العمل شرقًا" تعيد رسم خريطة الاتصال لشمال شرق الهند
لقد تُوجت جهوده الدؤوبة بلحظة مفصلية شهدتها أنانتناغ في 29 يونيو 2025م، حيث التقى الحاكم مانوج سينها بـ95 أسرة من جنوب كشمير واستمع إلى معاناتهم. وروى مدثر قائلًا: "كان ذلك أسعد يوم في حياتي"، مشيرًا إلى المشاهد المؤثرة التي شهدت بكاء الكثيرين.
وتعهّدت الحكومة بتحقيق العدالة وتوفير الوظائف وإعادة التأهيل وضمان سبل العيش، وأُنشئت وحدات خاصة لرعاية أسر ضحايا الإرهاب وسُلّمت خطابات تعيين لعدد من ذويهم.
