شانكار كومار*
ورغم أن الجيش في نيبال تمكن من فرض السيطرة على الوضع، إلا أن حالة الفوضى والارتباك ما تزال تخيّم على أرجاء البلاد. وفي هذا المناخ المأزوم، برز تحول لافت في موقف شريحة الشباب من جيل "زد"؛ فبعد أن كانوا منقسمين بشأن قيادة الحكومة المؤقتة، اصطفّوا، في نهاية المطاف، خلف سوشيلا كاركي، الرئيسة السابقة للمحكمة العليا في نيبال، لرئاسة الوزراء.
وأدت سوشيلا كاركي، البالغة من العمر 73 عامًا والمعروفة بمواقفها الصلبة ضد الفساد، اليمين الدستورية كرئيسة للوزراء في الحكومة المؤقتة أمام الرئيس رامشاندرا باوديل في 12 سبتمبر، وذلك بعد أربعة أيام من اضطرار رئيس الوزراء خادغا براساد أولي إلى الاستقالة تحت ضغط متصاعد من حركة جيل "زد". وقد اندلعت هذه الحركة إثر فرض حظر على وسائل التواصل الاجتماعي، لتتصاعد الاحتجاجات ضد حكومة أولي إلى مستوى العنف في 8 سبتمبر، حين أسفر إطلاق النار من جانب الشرطة في كاتماندو عن سقوط ما لا يقل عن 19 قتيلًا.
ولم ينجُ برلمان نيبال ولا المجمّع التاريخي "سينغ دربار" – القصر المشيَّد عام 1908م والذي شكّل لعقود مركزًا إداريًا للحكومة – من النيران التي أشعلها المحتجون. كما أضرم المتظاهرون النار في مقر إقامة رئيس الوزراء خادغا براساد أولي، وعدد من منازل وممتلكات شخصيات سياسية بارزة أخرى، من بينها منازل وممتلكات الرئيس رامشاندرا باوديل.
وقد دفع الغضب المتراكم لدى المحتجين إزاء الفساد المستشري والمحسوبية في أجهزة الحكم إلى مهاجمة وزراء وشخصيات بارزة بلا رحمة؛ إذ تعرضت وزيرة الخارجية، آرزو رانا ديوبا، وزوجها رئيس الوزراء الأسبق شير بهادور ديوبا، للضرب في منزلهما بكاتماندو. كما تعرّض وزير المالية بيسنو براساد باوديل للركل والاعتداء، في حين لقيت زوجة رئيس الوزراء الأسبق جهلاناث خانال، راجيالاكسمي تشيتراكار، حتفها بعد أن أُضرم الحريق في منزلهما.
ولم تشهد نيبال مثل هذه الاضطرابات منذ عقود، إذ جاءت أكثر عنفًا من أحداث عام 2006م. ففي غضون ساعات قليلة، تحولت العاصمة إلى جحيم من النيران والدمار، في مشهد استحضر أزمات إقليمية قريبة، مثل أزمة بنغلاديش عام 2024م واضطرابات سريلانكا عام 2022م. وتجدر الإشارة إلى أن انتفاضة عام 2006م كانت قد أرغمت ملك نيبال، غيانيندرا شاه، على التنازل عن العرش والتخلي عن حكمه الاستبدادي.
وقد برز الشباب في نيبال وبنغلاديش وسريلانكا في طليعة موجات الاحتجاج وأعمال العنف. كما أن دوافع الاضطرابات في هذه الدول بدت متشابهة بشكل غريب، إذ تراكم الغضب الشعبي نتيجة تفاقم البطالة واستفحال الفساد واتساع فجوة عدم المساواة. وفي البلدان الثلاثة، انتهى الأمر بسقوط الحكومات على أيدي المحتجين.
ومع ذلك، فإن الحملة التي قادها جيل "زد" في نيبال ستبقى علامة فارقة في تاريخها، لما خلّفته من فراغ سياسي، وما يترتب عليه من تحديات جسيمة أمام الحكومة المؤقتة الساعية إلى إعادة الاستقرار والعقلانية إلى البلاد.
_(1).jpg)
وفي الوقت الراهن، يتعيّن على الحكومة المؤقتة أن تضمن قدرة نيبال على تجاوز التحديات المتشابكة، والتي تتمثل في إعادة بسط سيادة القانون والنظام في أنحاء البلاد، وتنظيم الانتخابات البرلمانية خلال ستة أشهر، والتصدي لملف الفساد المتجذّر، فضلًا عن مواجهة الضغوط المتعددة الصادرة عن مجموعات ضغط جديدة برزت في سياق الحملة التي يقودها جيل "زد".
التحديات أمام الحكومة المؤقتة
وإن استعادة النظام وسيادة القانون ستشكّل أصعب التحديات أمام الحكومة المؤقتة، لاسيما مع تواصل أعمال العنف والتخريب وإحراق الممتلكات في مناطق متفرقة من البلاد. ويزيد من تعقيد المشهد فرار ما يزيد على 11,500 سجين، بينهم شخصيات بارزة، من عدة سجون مختلفة.
وتمكنت قوات الأمن من اعتقال وإعادة اعتقال ما يقارب 1,459 سجينًا ممن تمكنوا من الفرار، غير أن استمرار وجود عدد كبير من السجناء الخطرين خارج السيطرة يشكّل تحديًا خطيرًا أمام استتباب الأمن والنظام في البلاد. كما أن تسلّل عناصر وجماعات فوضوية إلى المشهد يمثل معضلة إضافية لأجهزة الشرطة والقوات الأمنية في الدولة الهيمالاية.
وإلى جانب ذلك، فإن تنظيم الانتخابات خلال الأشهر الستة المقبلة يُعد مهمة شاقة للغاية. فالنشطاء من جيل "زد" يقفون على طرف نقيض من الطبقة السياسية وأحزابها، ما يثير تساؤلًا مشروعًا: من سيخوض الانتخابات إذا ما امتنعت الأحزاب السياسية عن المشاركة؟ وقد يُسمح لبعض الأحزاب بالمنافسة، لكن يبقى السؤال الأهم: هل سيقبل محتجو جيل "زد" نتائج هذه الانتخابات، أيًا كانت مخرجاتها؟
وتجدر الإشارة إلى أن سوشيلا كاركي تنتمي إلى خلفية قانونية خالصة ولم تسبق لها أي تجربة سياسية، وهو ما يثير تساؤلات حول مدى قدرتها على التعامل مع مطالب جيل "زد" وتطلعات داعميهم. وفي هذا الإطار، لعبت منظمة "هامي نيبال" غير الحكومية، التي كان يرأسها سودان غورونغ، الذي كان في طليعة الحراك، دورًا محوريًا و لم تدّخر جهدًا في دعم كاركي لرئاسة الوزراء المؤقتة.
وتسود مخاوف من أن يسعى سودان غورونغ إلى التأثير على قرارات حكومة سوشيلا كاركي في القضايا السياسية والاقتصادية والاستراتيجية الكبرى. ويحذر خبراء من أن مقاومة رئيسة الوزراء كاركي للضغوط الآتية من سودان غورونغ أو من نشطاء جيل "زد" قد تفضي إلى اندلاع جولة جديدة من الصراع السياسي.
.jpg)
تقف نيبال اليوم عند مفترق طرق تاريخي في مسارها السياسي؛ فأي معالجة غير ناضجة أو قرارات خاطئة قد تدفع البلاد نحو أجواء من الفوضى وعدم اليقين.
نيبال إلى أين؟
ويرى خبراء أن نيبال بحاجة إلى حماية مسارها الديمقراطي والحفاظ على زخمه، مع استخلاص العِبر من التجربة السريلانكية.
وأعقبت الاحتجاجات العنيفة الناجمة عن الانهيار الاقتصادي في سريلانكا، والتي أفضت إلى استقالة الرئيس غوتابايا راجاباكسا وفراره إلى الخارج، حالة من الهدوء الهش في كولومبو، لتشهد البلاد، في يوليو 2022م، تشكيل حكومة انتقالية برئاسة رانيل ويكريمسينغه.
وشهدت سريلانكا في سبتمبر 2024م انتخابات رئاسية فاز فيها أنورا كومارا ديساناياكي، مرشّح تحالف السلطة الشعبية الوطنية (NPP).ويُعرّف هذا التحالف نفسه كـ"حركة سياسية ديناميكية"، وقد تم تأسيسه عام 2019م عبر ائتلاف ضم 21 مكوّنًا متنوعًا، من بينها أحزاب سياسية ومنظمات شبابية ونسائية ونقابات عمالية ومؤسسات مجتمع مدني.
وجاء انتخاب أنورا كومارا ديساناياكي بمثابة تعبير احتجاجي ضد النظام السياسي القائم وتجسيداً لاستمرار الحراك الشعبي المناهض للفساد في سريلانكا. ومن هذا المنظور، يمكن أن تمثل التجربة السريلانكية لنيبال نموذجًا مهمًا في كيفية الحفاظ على الديمقراطية دون المساس بالمصالح الوطنية الجوهرية. وإلى جانب ذلك، فإن بروز بدائل سياسية جديدة خارج الأطر التقليدية ومراكز النفوذ المهيمنة قد يفتح آفاقًا واعدة لاستعادة ثقة الجمهور وإعادة تشكيل المشهد السياسي في نيبال.
ومن المؤكد أن تولي سوشيلا كاركي رئاسة الوزراء المؤقتة يعكس في آن واحد مطلبًا شعبيًا بحوكمة نزيهة ورفضًا لهيمنة النخب السياسية الراسخة، غير أن العوامل التي أوصلتها إلى السلطة – غضب الشباب، واستفحال الفساد، وتآكل الثقة بالمؤسسات، وحالة السخط الشعبي – تشكل بدورها تحديات معقدة ستواجه حكومتها المؤقتة.
اقرأ أيضًا: حين تبتعد واشنطن… تقترب طوكيو وبكين وموسكو من نيودلهي
ويبقى التحدي المركزي أمام نيبال متمثلًا في تحقيق استقرار سياسي عاجل. فالقرارات التي ستتخذها الحكومة المؤقتة في الأشهر المقبلة ستكون حاسمة في تحديد المسار: إما أن تنجح الدولة الهيمالاية في رسم طريق نحو التجديد وترسيخ صمودها الديمقراطي، أو تنزلق مجددًا إلى دوامة من الاحتجاجات والاضطراب وعدم اليقين.
*صحفي بارز، عمل مراسلًا من كاتماندو على مدى ثلاث سنوات.