عبيد الرحمن الندوي*
يُعدّ العلامة بركة الله البُهوبالي من أبرز المناضلين الذين ضحّوا بكل شيء في سبيل استقلال الهند. وُلد هذا الابن البار للهند في 7 يوليو عام 1854م، في إتاورة بمدينة بُهوبال بولاية مادهيا براديش، وتوفي في 20 سبتمبر عام 1927م، عن عمر ناهز 73 عامًا، في مدينة سان فرانسيسكو بولاية كاليفورنيا في الولايات المتحدة الأمريكية.
ولم يكن العلامة بركة الله البُهوبالي عالمًا إسلاميًا متبحرًا فحسب، بل كان شخصية فذّة متعددة المواهب. وكان صحفيًا ثائرًا مبدعًا، ووطنيًا حقيقيا، ومؤلفًا لعدد من الكتب القيّمة، كما كان يتقن أكثر من ثماني لغات. وفي عام 1988م، أُعيدت تسمية جامعة بهوبال لتصبح جامعة بركة الله وذلك تكريمًا له.
ولا يخفى على أحد أن العلامة بركة الله وهب حياته بكاملها لقضية استقلال الهند، فكان من أبرز رموز الحركة الوطنية، وعُرف بخطبه الجريئة وكتاباته الثورية التي تصدّت بقوة للحكم البريطاني. وقد تولّى منصب رئيس وزراء الحكومة المؤقتة للهند في المنفى، وكان من أشدّ الداعين إلى استقلال بلاده عبر الكلمة والخطاب. وأسّس جمعية "الهند للحكم الذاتي"، وانخرط بفاعلية في عدد من الحركات الثورية. وفي عام 1915م، تولّى رئاسة الوزراء في الحكومة المؤقتة للهند التي أُعلنت في كابول برئاسة راجا مهِندرا براتاب.
وكان من الشخصيات البارزة في حزب الغَدَر، وهي منظمة ثورية أسّسها مهاجرون هنود في الولايات المتحدة الأمريكية عام 1913م، بهدف الإطاحة بالحكم البريطاني في الهند. ولا شك أن جهوده الدؤوبة في صفوف هذا الحزب، إلى جانب دوره الريادي في الحكومة المؤقتة، يشكّلان دليلَين واضحَين على عمق التزامه بقضية تحرير وطنه.
تلقّى العلامة بركة الله تعليمه الابتدائي في مسقط رأسه، ثم التحق بالمدرسة السليمانية الشهيرة، حيث حفظ القرآن الكريم ودرس كتب الحديث الستة (الصحاح الستة) وتخرّج فيها عام 1878م، فأصبح عالمًا متمكنًا وبارزًا في اللغة العربية والفارسية وعلوم الشريعة الإسلامية. وقد تلقّى فيها أيضًا تعليمه في اللغة الإنجليزية حتى مستوى الشهادة الثانوية. فنال تعليمه من المرحلة الابتدائية إلى مرحلة الكلية في مدينة بُهوبال. ثم ارتحل إلى مومباي ومنها إلى لندن لمتابعة دراساته العليا.
ومن الجدير بالذكر أن العلامة بركة الله كان ثوريًا بالفطرة، فقد ظهرت ملامح شخصيته النضالية في سنوات شبابه المبكر، فاستقل ماديًا ثم أولى هتمامًا بالغًا بإتقان اللغة الإنجليزية حتى يتمكن من الدفاع عن قضية وطنه في الساحات الدولية بفعالية ووضوح. وفي عام 1883م، غادر بُهوبال فجأة وهو في الثالثة والعشرين من عمره، والتحق بالعمل في مدرسة تبشيرية مسيحية في جابلبور. ثم توجّه إلى مومباي، حيث انكبّ على دراسة اللغة الإنجليزية بجدية لمدة أربع سنوات. وفي عام 1890م، سافر إلى إنجلترا لمواصلة دراسته العليا، غير أنّه لم يتمكن من إتمام دراسته النظامية، بسبب انشغاله بالنشاطات السياسية والثورية الهادفة إلى تحرير بلاده من نير الاستعمار.
وكان من بين القلائل الذين قضوا الجزء الأكبر من حياتهم خارج الهند، فقد تنقّل بين عدد من الدول التي كانت ميادين لنشاطه الثوري، أبرزها: إنجلترا، واليابان، والولايات المتحدة، وتركيا، وأفغانستان، وروسيا، وألمانيا. وظل يتنقّل بين هذه البلدان ساعيًا إلى كسب التأييد الدولي لقضية استقلال الهند. وحين وصل إلى لندن، كان أكثر ما يشغل تفكيره هو كيف لدولة صغيرة كإنجلترا أن تُصبح بهذه القوة والازدهار لتتمكّن من السيطرة على بلد واسع عريق كالهند. وتيقّن أن الاستعمار البريطاني للهند هو السبب الأساسي في بؤسها.
العلامة بركة الله صحفيًا ثائرًا
كان العلامة بركة الله صحفيًا متقنًا، تميز ببصمة فكرية واضحة في مجال الصحافة، حيث أسهم في إصدار عدد من المجلات والصحف في مختلف بلدان العالم. ففي اليابان تولّى تحرير مجلة "الرابطة الإسلامية" وفي فرنسا وألمانيا أدار مجلة "الإصلاح"، مستغلا الصحافة كوسيلة فعّالة للدعوة إلى استقلال الهند، وقد عكست كتاباته دعوات إلى الوحدة بين الهنود، إلى جانب انتقاداته اللاذعة للحكم البريطاني.
وفي عام 1895م، تلقّى دعوة من عبد الله كويليام، المواطن البريطاني الذي اعتنق الإسلام، للعمل في المعهد الإسلامي في ليفربول، حيث أُتيح له أن يكتب في صحيفتَي المعهد: الهلال (The Crescent)، والعالم الإسلامي Islamic World)، وكتب فيهما العديد من المقالات. كما نُشرت مقالاته في صحف بريطانية متعددة، وخاصة صحيفة "لندن تايمز" التي نشرت مقالاته بانتظام. كما عمل أستاذًا في كلية الدراسات الشرقية بجامعة ليفربول. والتقى العلامة بركة الله، في أثناء إقامته بإنجلترا، بالثوريين البارزين غوبال كريشنا جوكالي وشياما جي كريشنا فارما، وتأثر بأفكارهما الوطنية تأثرًا عميقًا، ما زاد من تأجج حماسه الثوري.
ومن أبرز الخطط التي كان ينوي تنفيذها في إطار مشروعه الثوري، هو إطلاق هجوم على الهند البريطانية بالتعاون مع كل من تركيا وألمانيا، عبر تشكيل جيش من المتطوّعين يُعرف بـ"جُند الله". وكان الهدف الرئيس لهذا الجيش هو طرد البريطانيين ليس فقط من الهند، بل من بلدان أخرى في الشرق الأوسط. وكان مقره الرئيس في المدينة المنوّرة، في حين أُقيمت مراكز للتجنيد في كابول والقسطنطينية وطهران، تحت إشراف مركزي مباشر من العلامة عبيد الله السندي. ولهذا، يمكن القول إن العلامة بركة الله كان من أوائل الداعين إلى وحدة الشعوب الآسيوية. ولكن الحكومة المؤقتة للهند لم تدم طويلًا، إذ اضطُرت الحكومة الأفغانية إلى سحب دعمها تحت ضغوط شديدة من البريطانيين، مما أدى إلى إنهاء المهمة في أفغانستان.
ومع ذلك، فإن انهيار الحكومة الموازية لم يُثنِ العلامة بركة الله عن عزيمته، بل واصل نشاطه بلا هوادة، فطاف عددا من البلدان الأوروبية والآسيوية ساعيًا إلى حشد الدعم الدولي لقضية استقلال الهند. وفي 7 مايو 1919م، التقى برفقة راجا مهندرا براتاب وآخرين مع فلاديمير لينين. كما ألّف كتيبًا باللغة الفارسية بعنوان "البُلشفية والأمم الإسلامية"، التي ترجمها إلى الإنجليزية الكابتن صمد شاه، الضابط في الجيش الهندي التابع للسلطات البريطانية، ولكن الحكومة الاستعمارية سارعت إلى مصادرة الكتيب ومنع تداوله في الهند.
وقد أقام العلامة بركة الله نحو 11 عامًا في إنجلترا. ومن الجدير بالذكر أنه وصل إلى مدينة نيويورك عام 1899م، حيث بادر إلى التواصل مع الثوار والمفكرين من أبناء الجالية الهندية المقيمة هناك. وفي عام 1904م، شارك في تأسيس جمعية الآريين الموحدة، وواصل منها نشاطه لأجل تحرير الهند. وكان من المؤسسين الأوائل لحزب الغدر الذي تم تأسيسها عام 1913م في مدينة سان فرانسيسكو. وقد أقام في الولايات المتحدة نحو ست سنوات.
اقرأ أيضًا: البروفيسور عبد الباري جعل العمال جزءًا من حركة استقلال الهند
وفي عام 1909م، انتقل العلامة بركة الله إلى اليابان، حيث درّس نحو خمس سنوات بين أعوام 1909-1914م، أستاذًا للغة الأردية في جامعة طوكيو. وخلال إقامته، أصدر مجلتين هما: "الرابطة الإسلامية" و"الإصلاح". وبسبب نشاطاته المناهضة للبريطانيين في اليابان، بما فيها نشر مواد تحريضية، اُضطر إلى مغادرة البلاد عام 1914م. فإنه أقام نحو خمس سنوات في اليابان.
اقرأ أيضًا: القاضي أحمد حسين: بطل مجهول في النضال من أجل حرية الهند
وباختصار، يحتل العلامة بركة الله مكانةً مرموقةً في تاريخ كفاح الهند من أجل الاستقلال. والأهم من ذلك أنه أمضى خمسة وثلاثين عامًا في المنفى، مطاردًا من مكان إلى آخر، ومطلوبًا لدى السلطات الاستعمارية. وقد عانى كثيرًا ومرّ بأشكال متعددة من المحن، ولكن لم يثنه شيء عن هدفه النبيل. ولقد عاش للهند ومات من أجلها. فيجب أن يبقى هذا الثائر العظيم، والمناضل المخلص من أجل الحرية، والابن البار للهند، حاضرًا في الذاكرة دائمًا، ولا سيما في الخامس عشر من أغسطس، يوم استقلال الهند.
*أستاذ الصحافة واللغة الإنجليزية بدار العلوم لندوة العلماء، لكناؤ، أترابراديش.