حين تتحول نظرة المجتمع من عائق إلى جسر… يبدأ الإدماج الحقيقي

03-12-2025  آخر تحديث   | 03-12-2025 نشر في   |  أحمد      بواسطة | آواز دي وايس 
حين تتحول نظرة المجتمع من عائق إلى جسر… يبدأ الإدماج الحقيقي
حين تتحول نظرة المجتمع من عائق إلى جسر… يبدأ الإدماج الحقيقي

 


عامر سهيل واني*

يحتفي العالم، في 3 ديسمبر، باليوم الدولي للأشخاص ذوي الإعاقة. ولا يعدّ هذا اليوم مجرد مناسبة رمزية، بل هو تذكير عالمي بكرامة وحقوق وإمكانات الأشخاص ذوي الإعاقة، ودعوة عاجلة لإزالة كل الحواجز—الظاهرة والخفية—التي تمنعهم من المشاركة الكاملة والفاعلة في المجتمع.

وفي عالم بات ينظر إلى التنوّع باعتباره مصدر قوة، لم يعد إدماج الأشخاص ذوي الإعاقة خيارًا هامشيًا، بل شرطًا أساسيًا لتحقيق العدالة والمساواة والتنمية المستدامة. ومع سعي الدول إلى تنفيذ أهداف التنمية المستدامة، يظل إدماج ذوي الإعاقة عنصرًا محوريًا في صميم هذه الأهداف، التي يقوم جوهرها على مبدأ: "ألا يُترك أحد خلف الركب".

وكانت نظرة المجتمع عبر التاريخ أكبر عائق أمام إدماج الأشخاص ذوي الإعاقة. فطوال عقود طويلة، سادت رؤية تُعامل الإعاقة كحالة تستوجب الشفقة أو "الإصلاح" أو الرعاية الدائمة لأنها نظرت إلى الإعاقة من منظور خيري أو طبي بحت. ونتيجة لذلك، دُفع الكثيرون إلى الهامش وحُرموا من التعليم والعمل والاستقلالية والتفاعل الاجتماعي وحقوق المواطنة المتساوية. ولم تقتصر هذه المواقف على الأفراد فحسب، بل أثّرت أيضًا في السياسات والبيئات والسلوكيات، مما جعل الإقصاء حالة مُكرّسة ومتواصلة.

وأسهمت حركات حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة خلال العقود الأخيرة في تغيير جذري لفهم الإعاقة، من كونها عجزًا فرديًا إلى كونها حالة يصنعها المجتمع نتيجة الحواجز المادية والمؤسسية والسلوكية. ووفقًا لهذا النموذج، تصبح غيابمنحدرات ومنزلقات لذوي الإعاقة، وصعوبة الوصول إلى وسائل النقل، والتمييز في التوظيف، وعدم إتاحة الموارد الرقمية، واللغة الجارحة، هي الأسباب الحقيقية للإعاقة، لا الاختلاف الجسدي أو الحسي نفسه. قد ساعد هذا التحوّل في استعادة الأشخاص ذوي الإعاقة لحقوقهم وكرامتهم وإتاحة مساحة أوسع لصوتهم في الحياة العامة.

ويتطلّب تغيير النظرة نحو الأشخاص ذوي الإعاقة مواجهة الصور النمطية العميقة التي ما زالت قائمة. فكثيرًا ما يُستخفّ بقدراتهم، أو يُعاملون بطريقة تُفقدهم استقلالهم، أو يُنظر إليهم على أنهم غير قادرين على اتخاذ القرارات. وتنعكس هذه التحيزات في المدارس وأماكن العمل والرعاية الصحية، بل وحتى داخل الأسرة. ولذلك، أصبح تصحيح الوعي المجتمعي خطوة ضرورية لضمان إدماج عادل وحقيقي.

ولا يزال تمثيل الأشخاص ذوي الإعاقة في الإعلام والحياة العامة ضعيفًا أو غير دقيق، إذ يُصوَّرون غالبًا إمّا كمن يستحق الشفقة أو كأبطال خارقين. هذا النوع من التصوير يبتعد عن الواقع ويُعيد إنتاج الصور النمطية بدل كسرها. المطلوب هو الانتقال إلى صورة أكثر احترامًا وواقعية، تُظهر الإعاقة كجزء طبيعي من التنوع الإنساني، لا كاستثناء ولا كعبء.

وليس تغيير النظرة تجاه الإعاقة مجرد نقاش فكري، بل هو تحوّل ثقافي كامل. فالأسر تحتاج إلى تشجيع استقلال أبنائها بدل الإفراط في حمايتهم، والمعلّمون مطالبون بتبنّي ممارسات تعليمية أكثر شمولًا، وأصحاب العمل عليهم أن يروا مهارات الفرد قبل الإعاقة، والمجتمع يجب أن يتعامل مع التنوع بروح التعاطف والتقبّل. وحين تنضج هذه الرؤية الجديدة، تزول الكثير من العوائق تلقائيًا، ويصبح الإدماج واقعًا ملموسًا لا شعارًا نتغنّى به.

وشهدت السياسات حول العالم تقدّمًا واضحًا في حماية حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة. فالاتفاقية الدولية لحقوق الأشخاص ذوي الإعاقة تُعدّ أبرز إطار عالمي يرسّخ المساواة والكرامة والمشاركة بوصفها حقوقًا قانونينة. وجاء في الهند قانون حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة لعام 2016م ليُوسّع فئات الإعاقة المعترف بها، ويقوّي قوانين منع التمييز، ويُلزم بتوفير الإتاحة، ويعزّز فرص التعليم والعمل الشامل للجميع.

ورغم التقدّم في التشريعات، يبقى التطبيق هو التحدي الأكبر. فما زالت كثير من المباني العامة، ووسائل النقل، والمؤسسات التعليمية، والمنصّات الرقمية غير مهيّأة لذوي الإعاقة. كما أن معدلات توظيف الأشخاص ذوي الإعاقة ما تزال منخفضة بسبب بيئات عمل غير ميسّرة، وضعف فرص التدريب. كما تختلف خدمات الرعاية والتأهيل بين المدن والقرى، وتظلّ التقنيات المساعدة خارج قدرة كثير من الأشخاص رغم أهميتها الكبيرة لحياتهم اليومية.

وتنتج فجوات السياسات عن نقص البيانات الدقيقة حول الإعاقة، ما يضعف التخطيط وتوجيه الموارد. كما تعاني آليات متابعة تطبيق القوانين من قلة الإمكانات ونقص الموارد، بينما تفتقر جهات عدة إلى الوعي الكافي بتنفيذ حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة، مما يحدّ من فاعلية الجهود المبذولة في هذا المجال.

ووراء كل حاجز يُزال، تتنفتح فرصة جديدة تحمل إمكانية كبيرة. فعندما تلتزم المجتمعات بالإدماج باعتباره حقًا لا منّة وإحسانًا، تتّسع أمام الأشخاص ذوي الإعاقة أبواب التعليم والعمل والتكنولوجيا والحياة العامة والقيادة. وحين يحدث ذلك، لا تتغيّر حياة الأفراد فقط، بل تتطور المجتمعات بأكملها نحو مزيد من الشمول والعدالة.

ويظلّ التعليم الدامج حجر الأساس للتمكين الحقيقي طويل المدى. فالمدارس التي تتبنّى التصميم الشامل، وتوفّر التقنيات المساعدة، وتُدرّب المعلّمين على أساليب تعليم شاملة، وتخلق بيئة داعمة—تمنح الأطفال ذوي الإعاقة فرصة للتعلّم مع أقرانهم بكرامة. وهذا النوع من التعليم يُنمّي التعاطف والانسجام والاحترام المتبادل بين الطلاب، مما يساهم في بناء مجتمع أكثر شمولًا وتفهّمًا في المستقبل.

ويشكّل التمكين الاقتصادي ركيزة أساسية أيضًا في مسار إدماج الأشخاص ذوي الإعاقة. فهم يمتلكون طاقات ومهارات ورؤى يمكن أن تُحدث فارقًا حقيقيًا في سوق العمل، شرط توفير البيئة المناسبة لهم، من تدريب متخصص، وتسهيلات معقولة، وبنية تحتية مهيّأة، إلى وعي أكبر لدى أصحاب العمل.

وعندما تتوفر هذه العناصر، يثبت الأشخاص ذوو الإعاقة قدرتهم على الإبداع والتميّز في مجالات شتى، من الإدارة والفنون إلى التكنولوجيا وريادة الأعمال والخدمات العامة. ويمنحهم الاستقلال الاقتصادي شعورًا أكبر بالثقة، ويخفف من هشاشتهم الاجتماعية، وفي الوقت نفسه يقدّم مساهمة ملموسة في الاقتصاد.

وتمنح التكنولوجيا اليوم فرصًا غير مسبوقة للأشخاص ذوي الإعاقة، بفضل تطورات مثل أدوات الذكاء الاصطناعي، وقارئات الشاشة، والأجهزة المساعدة، والأطراف الصناعية المتقدمة. ومع توفير الإتاحة الرقمية في التعليم والعمل والخدمات، يمكنهم المشاركة الكاملة في مختلف مجالات الحياة. وإن دمج الابتكار مع التصميم الشامل يواصل فتح آفاق جديدة للاستقلالية والاندماج.

ويشكّل تمكين الأشخاص ذوي الإعاقة من المشاركة والقيادة عنصرًا أساسيًا في تحقيق الإدماج الحقيقي. فقد أصبحوا اليوم حاضرين بقوة في الحياة العامة كناشطين وصنّاع سياسات ومعلّمين وفنانين ورياضيين وروّاد أعمال، وأسهم وجودهم في تغيير النظرة المجتمعية، ودفع مسارات الإصلاح، وإلهام الأجيال الجديدة. ولا يكتمل الشمول إلا عندما تعكس مواقع صنع القرار تنوّع المجتمع، ويكون للأشخاص ذوي الإعاقة دور وصوت مؤثّر في مختلف مستويات القيادة.

اقرأ أيضًا: نواز مفتاحي يُضيءُ عالمَ المكفوفين

وفي النهاية، يبقى المجتمع هو المحور الذي تدور حوله كل فرص الشمول والتمكين. فالعائلات والجيران والمؤسسات ومنظمات المجتمع المدني تشكّل جميعها شبكة الدعم الأولى التي تحدّد مدى قدرة الأشخاص ذوي الإعاقة على الاندماج والنجاح. وعندما يتبنّى المجتمع مبدأ الإتاحة لا بوصفه التزامًا قانونيًا، بل قيمة جماعية تعبّر عن احترام الإنسان وكرامته، يصبح الشمول ممارسة يومية تتجسّد في البيئة والسلوك والقرارات. ويتحوّل الإدماج من فكرة نظريّة إلى واقع يعيش فيه الجميع بكرامة ومساواة.