أشفاق أحمد*
قدّم العهد النبوي نماذجَ رائعةً في إقرار حقوق المرأة واحترامها في المجتمع. فقد بدأت رسالة الإسلام في بيئةٍ كانت المرأةُ تعاني فيها من مظاهر متعددة من الظلم الاجتماعي، وتُحرَم من أبسط حقوقها الإنسانية، وكان الرجال في كثير من الأحيان يعاملونها وكأنها متاعٌ أو عبءٌ على المجتمع الذي تعيش فيه. وفي خضمّ هذه الأوضاع المؤلمة، ظهر محمد بن عبد الله ﷺ، فأحدث ثورةً أخلاقيةً وتشريعية أعادت للمرأة إنسانيتها، ورسّخت في المجتمع مبدأ كرامتها، ومنحتها مساحةً واسعة من الحرية المنضبطة بالقيم الأخلاقية والمسؤولية الاجتماعية.
وضع المرأة العربية في العهد الجاهلي
عاشت المرأة في شبه الجزيرة العربية أوضاعًا قاسية في العصر الذي عُرف بـالعهد الجاهلي؛ إذ كانت تُحرَم من حقها في الإرث، ولا يُحترم رأيها في شؤون الزواج أو الطلاق داخل المجتمع الذكوري، بل كانت تُورَث كالمتاع. كما مارست بعض القبائل العربية سلوكيات مهينة بحق المرأة، من بينها وأد البنات خوفًا من الفقر أو العار. وكان الرجل يتزوج عددًا غير محدود من النساء، أو يقيم علاقات غير منضبطة لإشباع رغباته الجنسية، كما كان يطلّق زوجته أو زوجاته متى شاء، دون مراعاة لحقوقهن أو كرامتهن أو مستقبلهن.
وفي ظل هذا الواقع الخطير الذي عانت فيه المرأة العربية، جاء الإسلام برسالة عادلة سمحة هدفت إلى تصحيح هذا الخلل، وإعادة التوازن إلى العلاقات الاجتماعية، وفي مقدّمتها العلاقة بين الرجل والمرأة، وإرساء نظام قيمي وتشريعي يقوم على العدل والكرامة الإنسانية، ولا يميّز بين الذكور والإناث.
المبدأ الإسلامي الأساسي لحرية المرأة
أعلن القرآن الكريم أن المجتمع الإنساني الجديد يقوم على مبدأ المساواة الإنسانية بين الرجل والمرأة، وأكد أن التقوى والعمل الصالح هما الأساس الوحيد للتفاضل بين البشر، دون أي اعتبار للجنس أو النسب. قال تعالى: ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾.
ولقد شكّلت هذه الآية ثورة فكرية وأخلاقية كبرى في المجتمع العربي آنذاك، وكانت رسالتها واضحة وحاسمة في مواجهة النظام الذكوري الذي كان سائدًا في شبه الجزيرة العربية عبر قرون طويلة.
كما أن هذه الآية القرآنية، إلى جانب كثير من الآيات الأخرى، قرّرت للمرأة كيانًا مستقلًا بذاته، وجعلتها مسؤولة عن أفعالها، كما تكون مسؤولة عن ثوابها وعقابها يوم القيامة. ويُعدّ هذا الإعلان القرآني الأساس الذي ضمن للمرأة حريتها وكرامتها في العهد النبوي.
ولقد مثّل هذا التصور الإسلامي نقلة نوعية وثورة حقيقية في ضمان حرية المرأة، وفي إرساء نظام عادل يقوم على علاقة متوازنة ومتكافئة بين الرجل والمرأة.
حرية المرأة المسلمة في العقيدة والعبادة والسلوك
من أبرز مظاهر حرية المرأة المسلمة في العهد النبوي حريةُ اختيار الدين وممارسة العبادة. فقد كان للمرأة العربية الحق في اعتناق الدين الجديد إن شاءت، أو رفضه إن لم ترغب فيه، دون إكراه أو إجبار. ويقدّم تاريخ ذلك العهد شواهد متعددة تؤكد تمتع المرأة بحرية الاختيار الديني وممارسة معتقدها، إذ نادرًا ما سُجّلت حالات أُجبرت فيها زوجات غير مسلمات على اعتناق الإسلام من قبل أزواجهن المسلمين.
كما منح الإسلام المرأة المسلمة حرية كاملة في أداء شعائرها الدينية؛ فكانت تشارك الرجال في الصلاة في المسجد، وتؤدي صلاة الجمعة، وتحضر صلاتي العيدين، وتتعلم أمور دينها مباشرة من خاتم النبيين ﷺ. وقد حضرت النساء مجالسه العلمية، ووجهن إليه الأسئلة في شؤون الدين، والعلاقات الزوجية، وغيرها من القضايا الإنسانية والاجتماعية، مما يعكس مكانتهن الفاعلة في الحياة الدينية والاجتماعية في العهد النبوي.
وكانت حريةُ التعبير للمرأة تُوفِّر لها بيئةً قائمة على الاحترام، وتمكِّنها من الفهم والإفهام والاجتهاد. وخيرُ مثالٍ على حرية المرأة المسلمة في العهد النبوي أمُّ المؤمنين الأولى، السيدة خديجة بنت خويلد رضي الله عنها، بما تمتّعت به من شخصية مستقلة، وحياة علمية نشطة، واشتغالٍ ناجحٍ بالتجارة، فضلًا عن سلوكها الرفيع، نادر المثال، مع زوجها النبي الأمين محمد بن عبد الله ﷺ.
فلم تكن السيدة خديجة القرشية شريكةَ حياته فحسب، بل كانت رفيقةً وفيةً؛ اعتنت بحياته عنايةً كاملة، وآزرته في دعوته منذ اللحظة الأولى، وساندت رسالته بإخلاصٍ تام، وقدّمت له كل ما احتاج إليه من دعمٍ نفسيٍّ وماديٍّ ومعنويٍّ، فكانت مثالًا خالدًا للمرأة الواعية، والشريكة الحقيقية في بناء الرسالة والحضارة.
حرية المرأة المسلمة في التعليم والمعرفة
أولى النبيُّ الكريم ﷺ في عهده اهتمامًا بالغًا بالعلم، وحثَّ الرجلَ والمرأةَ على تحصيله دون أيِّ تفريقٍ بينهما. فقد دعا القرآن الكريم الرجلَ والمرأةَ معًا، مرارًا وتكرارًا، إلى طلب العلم والمعرفة، ولم يُميِّز بين علمٍ وآخر، ولا بين معرفةٍ تخصُّ جنسًا دون آخر. ومن خلال تفسير الآيات القرآنية وبيان مقاصد التعليم الإلهي، أكَّد النبيُّ المصطفى ﷺ هذا المبدأ بقوله: "طلبُ العلم فريضةٌ على كلِّ مسلم"، وهو نصٌّ عامٌّ يشمل الرجلَ والمرأةَ معًا دون استثناء. ولا شكّ أن هذا الحديث النبوي يُرسِّخ مبدأ المساواة في الحقِّ في التعلُّم، ويؤكِّد أن العلم واجبٌ إنسانيٌّ لا تحدّه الفوارق الجندرية، ولا يُقيَّد بنوعٍ معيّن من المعارف، بل يشمل كلَّ ما ينهض بالإنسان فردًا ومجتمعًا.
وظهرت في العهد النبوي العديد من النساء العالمات والمعلمات الصالحات، وفي مقدّمتهن أمُّ المؤمنين السيدة عائشة بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما، التي كانت مرجعًا علميًا بالغ الأهمية في الفقه والحديث. وكان كبار الصحابة رضي الله عنهم يرجعون إليها في مختلف المسائل الفقهية المعقّدة، فتُرشدهم إلى الصواب وتبيّن لهم الحكم الشرعي الصحيح. ويدلّ ذلك دلالة واضحة على أنّ المرأة في العهد النبوي، وكذلك في العصور التي تلته، لم تكن متلقّية للعلم فحسب، بل كانت معلمةً ومصدرًا معرفيًا موثوقًا، تُفيد بعلمها كبار الصحابة والتابعين، وتسهم إسهامًا فعّالًا في بناء المجتمع الإسلامي علميًا وفكريًا وتربويًا.
حرية المرأة المسلمة في أمور الزواج والطلاق
من أبرز مظاهر الحرية التي منحها الإسلام للمرأة في العهد النبوي حقُّها في اختيار زوجها؛ إذ حرَّم الإسلام الزواج القسري، وجعل رضا المرأة شرطًا أساسيًا لصحة عقد الزواج. وقد نقل المحدِّثون أن النبي ﷺ أبطل زواج امرأة زُوِّجت من رجل دون رضاها، وهو ما يؤكد أن الإسلام ينظر إلى المرأة بوصفها كيانًا مستقلًا بذاته، ويولي إرادتها الشخصية احترامًا بالغًا. ومن اللافت للنظر أن الإسلام منح المرأة المسلمة كذلك حقَّ طلب الطلاق (الخُلع) إذا استحالت حياتها الزوجية. ويعدّ المختصون في شؤون الزواج والطلاق هذا الحق ثورة حقيقية في المجتمع العربي آنذاك، إذ كان سابقًا لعصره ونادر المثال في المجتمعات الإنسانية في تلك الحقبة التاريخية.
حرية المرأة المسلمة في الشؤون الاقتصادية والمالية
لم يكتفِ الإسلام في العهد النبوي بالاعتراف بحقّ المرأة المسلمة في امتلاك الثروات والعقارات، بل مكّنها كذلك من ممارسة التجارة وكسب المال بجميع الطرق المشروعة. فقد أقرّ لها حق التملك، والبيع، والشراء، والإرث، والتصرف في مالها استقلالًا، من دون حاجة إلى إذن الرجل أو وصايته. وقد عُدّ هذا التمكين نقلة نوعية في المجتمع العربي، ومثالًا فريدًا في تاريخ المرأة الإنساني، إذ نَدُرت الشواهد التاريخية التي تُثبت الاعتراف بمثل هذه الحقوق للمرأة في الحضارات السابقة للإسلام.
ويُعَدّ من أبرز النماذج الدالّة على حرية المرأة في مجال التجارة والاقتصاد في العهد النبوي السيدة خديجة بنت خويلد رضي الله عنها، زوجة رسول الله ﷺ. فقد امتهنت التجارة قبل الإسلام، وعُرفت بين تجّار العرب بتاجرة ناجحة ذات مكانة مرموقة. وكانت تدير شؤونها التجارية باستقلالية كاملة قبل الإسلام، واستمر نشاطها الاقتصادي بعد إسلامها دون أن يُنتقص من حريتها أو مكانتها.
وتمتّعت السيدة خديجة بحرية تامّة في إدارة تجارتها والتصرّف في أموالها حتى بعد زواجها من رسول الله ﷺ، وهو أمر ذو دلالة بالغة في سياق الحديث عن مكانة المرأة الاقتصادية في الإسلام. ومن اللافت في هذا الإطار أن محمد بن عبد الله ﷺ عمل في تجارة السيدة خديجة قبل بعثته، وسافر بأموالها وبضائعها إلى مختلف مناطق شبه الجزيرة العربية، ما يعكس ثقة المرأة المسلمة وقدرتها على إدارة الأعمال، ويؤكد أن الإسلام لا يمنع الرجل من العمل تحت إدارة امرأة كفؤة. وقصة النبي مع خديجة الكبرى تثبت أيضًا أن المرأة المسلمة يمكنها أن تتولى رئاسة الدولة، وتعيّن مديرة لشركة.
حرية المرأة المسلمة في الرأي والمشاركة الاجتماعية
يشهد التاريخ أن المرأة في العهد النبوي شاركت مشاركةً فاعلة في الحياة العامة، وأبدت آراءها في القضايا الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والدينية. وكانت المرأة المسلمة تتحاور مع رسول الله ﷺ، وتطرح عليه أسئلة تتعلق بشؤون المجتمع والدين، فلم يكن يمنعها أو يثنيها عن ذلك، بل كان يشجّعها ويُثني على جرأتها وشغفها بالمعرفة. وقد نقل بعض الرواة أن امرأة جادلت رسول الله ﷺ في مسألة اجتماعية، فنزل القرآن الكريم مؤيدًا حقها في التعبير عن رأيها. كما شاركت النساء إلى جانب الرجال في الهجرة والبيعة والعمل الاجتماعي، بل وأسهمن في ميادين التمريض والدعم اللوجستي أثناء الغزوات، مما يدل على أن دور المرأة في العهد النبوي لم يكن محدودًا أو محصورًا في نطاق ضيق، ولم تكن المرأة مجرد ربّة بيت فقط. ولم يكن من الواجب عليها أن تخدم زوجها أو تطيع أهل أسرته في كل الأمور.
حرية المرأة المسلمة وحدودها الأخلاقية
لم تكن حرية المرأة المسلمة في العهد النبوي حرية مطلقة تؤدي إلى الفوضى الاجتماعية أو الانفلات من القيم الإنسانية، بل كانت حرية مسؤولة، منضبطة بضوابط أخلاقية تحفظ كرامة الفرد، وتضمن استقرار المجتمع الإنساني. ولم تكن هذه الحرية نقيضًا للالتزام، بل قامت على مبدأ التوازن بين الحقوق والواجبات. كما أن هذه الضوابط لم تُفرض على المرأة وحدها، بل شملت الرجل المسلم أيضًا. فلم ينحز الإسلام في العهد النبوي إلى طرف على حساب آخر، وإنما سعى إلى بناء مجتمع عادل ومتوازن، يقوم على المساواة والإنصاف بين الرجل والمرأة.
مقارنة تاريخية بين المرأة المسلمة وغير المسلمة
إذا قام باحث بإجراء دراسة مقارنة بين حرية المرأة المسلمة في العهد النبوي ووضع المرأة في الحضارات المعاصرة آنذاك، كالحضارات الهندية أو الرومانية أو الفارسية، فسيجد أن الإسلام سبق عصره في الاعتراف بالحقوق الإنسانية والاجتماعية للمرأة. فقد كانت المرأة المسلمة في العهد النبوي تطلب العلم، وتشارك في التجارة، وتؤدي دورًا فاعلًا في الحياة العامة، في وقتٍ كانت فيه المرأة في أوروبا وغيرها من الحضارات تُحرم من حق التملك والتعليم.
ولقد سعى الإسلام في العهد النبوي إلى إقامة نظام اجتماعي عادل لا يفرّق بين الرجل والمرأة، ويؤسس مجتمعًا يتمتع فيه الطرفان بحقوق متساوية. وهو مجتمع يقوم على القيم الإنسانية، ولا يفضّل الرجل على المرأة، ولا المرأة على الرجل، إلا على أساس العمل الصالح والتقوى.
المرأة المسلمة في الهند المعاصرة
أمّا المرأة المسلمة في الهند المعاصرة، فإنّها تُحرَم من كثيرٍ من الحقوق التي كانت المرأة تنالها في العهد النبوي. فالمرأة المسلمة تُمنع في بعض السياقات من دخول المساجد لأداء الصلوات، بما فيها صلاة الجمعة وصلاة العيدين، كما شهدت مساحة حريتها في المجتمع انكماشًا ملحوظًا. وفي كثير من الأحيان، لا تستطيع المسلمة الهندية التعبير بحرية عمّا في نفسها من آراء وأفكار تتعلّق بالشؤون الاجتماعية والتعليمية والسياسية. ولا نجد اليوم في الواقع الهندي نظيرًا لشخصية كالسيدة عائشة رضي الله عنها، يرجع إليها علماء الدين ليتعلّموا منها الحديث أو الفقه أو التفسير.
وفي كثير من الأحيان، لا يشجّع الوالدُ المسلم ابنته على طلب العلم الذي جعله النبي ﷺ فريضةً على كل مسلم ومسلمة، ولا ينفق على تعليمها كما ينفق على تعليم ابنه. وفي حالاتٍ عديدة، يكتفي بإلحاقها ببعض المدارس الدينية التقليدية لتحصيل ما يُسمّى في السياق الهندي بـ"العلوم الدينية"، دون الاهتمام بتعليمها العام. وقد أسهم هذا النهج في تضييق دور المرأة المسلمة وتقليص مشاركتها في بناء المجتمع والنهوض بالوطن.
وهنا تبرز تساؤلات مشروعة: هل ينظر المسلمون في الهند اليوم إلى المرأة بوصفها كيانًا مستقلًا له إرادة وحقوق؟ وهل يُسمح للبنات والزوجات بالانخراط في التجارة، أو امتلاك الثروات والعقارات، والتصرف فيها بحرية؟ وهل يثمّن علماء الإسلام في الهند دور النساء العاملات في التجارة أو الوظائف العامة والخاصة؟ وهل تُمنَح المرأة المسلمة مواقع قيادية في المؤسسات التعليمية أو الحركات الدينية؟
فإن استطاعت النساء المسلمات في العهد النبوي أن يقدّمن نموذجًا رائدًا في حرية التعبير، وحرية التعليم، والعمل، بين الأمم المعاصرة لهن آنذاك، فلماذا تتأخر المرأة المسلمة اليوم عن نساء الأمم المتقدمة؟ وإن الواقع يشير بوضوح إلى غياب النساء المسلمات في الهند المعاصرة عن منصات العلم والعمل على المستويين القومي والدولي، وهو غياب يطرح تساؤلات عميقة حول أسباب هذا التراجع، ومدى الالتزام الحقيقي بروح الإسلام التي كرّست للمرأة مكانتها وحقوقها منذ العهد النبوي.
اقرأ أيضًا: فكرة التعايش السلمي بين الأديان كما تتجلى في تفسير مولانا أبي الكلام آزاد
وتوخّى الإسلام إقامةَ نظامٍ لا يفرّق بين الرجل والمرأة، ويؤسّس لمجتمعٍ يتمتّع فيه كلاهما بحقوقٍ متساوية. ويقوم المجتمع الإسلامي على القيم الإنسانية السامية، فلا يُفَضَّل الرجل على المرأة، ولا تُفَضَّل المرأة على الرجل، إلا بالتقوى والعمل الصالح. وإذا كان الواقع المعاصر يشهد تفاوتًا في تطبيق هذه المبادئ، فإن الخلل لا يكمن في التشريع الإسلامي ذاته، بل في سوء الفهم أو قصور التطبيق. ويقدّم العهد النبوي للرجل والمرأة معًا نموذجًا رائدًا يُحتذى به في تحقيق التوازن بين الحرية والقيم، وبين الحقوق والواجبات.
*أستاذ في مركز الدراسات العربية والإفريقية، جامعة جواهر لال نهرو، نيو دلهي.