جدة
استحضر اليوم العالمي للسينما الذي يحتفى به عالميًا في 28 ديسمبر من كل عام، لحظة مفصلية في تاريخ الفن الإنساني، تعود إلى 28 ديسمبر 1895م، حين قدّم الأخوين "أوغست ولويس لوميير" أول عرض سينمائي في التاريخ داخل الصالون الهندي بمقهى غراند كافيه في شارع كابوسين بباريس، معلنًا ميلاد فن السينما الذي تحوّل لاحقًا إلى أحد أبرز روافد الثقافة العالمية وصناعة الترفيه والاقتصاد الإبداعي.
وقد مثّل ذلك العرض الذي استخدم فيه جهاز "السينماتوغراف" المبتكر، ثورة تقنية جمعت للمرة الأولى بين التصوير والعرض في آلة واحدة، عبر أفلام قصيرة لم تتجاوز الدقيقة، قُدّمت أمام جمهور محدود لم يدرك أنه يشهد بداية عصر جديد.
ومن بين أشهر تلك الأفلام "خروج العمال من المصنع" و"وصول القطار إلى المحطة" و"الطفل يأكل" و"لاعبو الورق"، حيث بلغ تأثير الصورة المتحركة حدّ الذهول، لا سيما في مشهد القطار الذي روى عنه لاحقًا أن بعض الحضور ظنّ أنه سيخترق الشاشة ويدخل القاعة.
ومع مرور الزمن ظل هذا العرض الأول رمزًا لانطلاق رحلة الإبداع البصري، ويحتفى به عالميًا في أيام السينما والمهرجانات الدولية، تقديرًا لدوره في نقل الصورة من سكونها إلى عالم حيّ نابض بالحكايات والشخصيات، وتفرعت عنه مدارس واتجاهات وعصور سينمائية أسهمت في تشكيل ذائقة الجمهور لأكثر من قرن.
وتحدث الباحث في دراسات السينما والاقتصاد الثقافي الدكتور عبد الرحمن بن عبدالله الغنام، من جانبه، حول نشأة السينما التي تحولت من مجرد تجربة بصرية تعتمد على الصور المتحركة إلى أداة تأثير عالمي، تُسهم في تشكيل الوعي وتوثيق التحولات الاجتماعية والسياسية، وبناء جسور ثقافية بين الشعوب، مشيرًا إلى أن السينما شهدت خلال العقود الماضية قفزات تقنية هائلة، بدءًا من الانتقال من الأبيض والأسود إلى الألوان، ثم ظهور تقنيات الصوت المحيط، وصولًا إلى الثورة الرقمية وتقنيات الذكاء الاصطناعي والتصوير ثلاثي الأبعاد وتقنيات CGI، التي أعادت تشكيل أساليب صناعة الأفلام.
وأفاد أن منصات البث الرقمي أسهمت في توسّع انتشار المحتوى السينمائي وإعادة تعريف مفهوم "شباك التذاكر" في العصر الحديث، لتصبح السينما صناعة اقتصادية كبرى تُسهم بمليارات الدولارات سنويًا في الاقتصاد العالمي، وتشغّل آلاف العاملين في مجالات الإنتاج والإخراج والتصوير والتقنية والتوزيع، في حين أنه مع استمرار هذه التقنيات الحديثة بإعادة تشكيل مستقبل السينما، يبقى جمهورها هو العنصر الأهم في استمرار هذه الصناعة التي تجاوزت حدود الشاشة لتصبح جزءًا من حياة المجتمعات حول العالم.
وأضاف الغنام أن السينما العربية شهدت تقدمًا ملحوظًا خلال السنوات الأخيرة من خلال مشاركات دولية في مهرجانات كبرى مثل كان وبرلين، وظهور جيل جديد من المخرجين الشباب، واضعة المملكة بصمتها في تطوير القطاع وتنمية المواهب المحلية، مسجلة صناعة السينما السعودية في زيادة الإيرادات، وعدد دور العرض وانتشار الإنتاجات المحلية التي حصد بعضها جوائز عالمية، منوهًا بأن السينما ليست مجرد وسيلة للترفيه، بل قوة ناعمة تعكس الهوية الثقافية، وتمثل أداة تعليمية وتوعوية، وقطاعًا اقتصاديًا مزدهرًا يدفع عجلة الإبداع والتنمية.
وأكد أن مستقبل صناعة السينما تدخل فيه تقنيات الواقع الافتراضي، والاتجاه نحو دمج الذكاء الاصطناعي في صناعة المحتوى، مما يجدد علاقة المشاهد بالشاشة الكبيرة، منوهًا أن السينما ليست مجرد وسيلة ترفيه، بل مساحة تجمع بين الإبداع والتجربة الإنسانية العميقة، وبينما تستمر التقنيات الحديثة بإعادة تشكيل مستقبل السينما، يبقى جمهورها هو العنصر الأهم في استمرار هذه الصناعة التي تجاوزت حدود الشاشة لتصبح جزءًا من حياة المجتمعات حول العالم، مؤثرةً في وعيهم وثقافتهم وطرائق تعبيرهم، ومع كل ابتكار جديد يطرأ على هذا الفن المتجدد الذي لا يزال أحد أقوى أدوات التواصل والتأثير، وأنه قادر على مواصلة رحلته مع الجمهور نحو آفاق أوسع من الخيال والإلهام.
في حين يمثل اليوم العالمي للسينما محطة ثقافية مهمة لتسليط الضوء على حفظ التراث السينمائي وترميم الأفلام القديمة رقميًا، إلى جانب ما يصاحبه من فعاليات ثقافية وتدريبية تشمل عروض أفلام مجانية أو مخفّضة، وجلسات نقاش وورش عمل متخصصة بمشاركة المخرجين وصنّاع الأفلام، والاحتفاء بالمواهب الشابة. ويأتي ذلك في ظل الدور المحوري الذي تضطلع به هيئة الأفلام في بناء صناعة سينمائية وطنية منافسة، من خلال تنظيم القطاع، وتمكين المواهب، وتطوير البنية التحتية، وجذب الاستثمارات، وتعزيز المحتوى المحلي، بما يدعم الاقتصاد الإبداعي ويرسّخ مكانة المملكة إقليميًا وعالميًا، إضافةً إلى إطلاق مبادرة "تمكين السينما الفنية" الهادفة إلى إثراء المشهد الثقافي وتطوير مهارات المبدعين عبر ورش عمل وفعاليات محلية ودولية تركز على التعبير الإبداعي والرسائل السينمائية المختلفة.
اقرأ أيضًا: حرية المرأة في العهد النبوي وتراجعها في المجتمع المسلم المعاصر في الهند
يُذكر أن المملكة العربية السعودية تشهد سنويًا تنظيم العديد من المهرجانات المحلية والدولية ذات العلاقة بقطاع السينما في طليعتها مهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي، كأكبر مهرجان سينمائي في المملكة ومن أهم المهرجانات في منطقة الشرق الأوسط، ويعرض أفلامًا من أكثر من 70 دولة في مسابقات مختلفة، تشمل أفلامًا روائيّة، ووثائقيّة، ورسومًا متحرّكة، ومهرجان أفلام السعودية ذا الطابع المحلي، ومنتدى الأفلام السعودي، الذي يجمع نخبة من المنتجين والفنانين والمتخصصين والمهتمين وصانعي الأفلام، من داخل المملكة وخارجها، وملتقى النقد السينمائي، والتي تسهم في نمو قطاع السينما ضمن رؤية 2030 بتسليط الضوء على المواهب والنصوص والهوية الثقافية ومد جسور التعاون الدولي، وفق ما ذكرت وكالة "واس".