حين يصبح المسجد مركزًا للمعرفة والدعم النفسي والاجتماعي

19-10-2025  آخر تحديث   | 19-10-2025 نشر في   |  آواز دي وايس      بواسطة | إيمان سكينة 
المسجد الجامع التاريخي في دلهي
المسجد الجامع التاريخي في دلهي

 


  إيمان سكينة

لطالما كانت المساجد مركزًا روحيًا واجتماعيًا للمجتمعات المسلمة منذ عهد النبي محمد . ولم يكن المسجد مجرد مكانٍ لأداء الصلوات، بل كان عبر التاريخ مركزًا للتعليم والإدارة والرعاية الاجتماعية والوحدة.

وفي العالم الحديث، ومع ازدياد تنوع المجتمعات وتحضرها واعتمادها على التكنولوجيا، يواصل المسجد أداء دوره المحوري — متكيّفًا مع التحديات الجديدة، مع الحفاظ على جوهره الخالد باعتباره قلب الحياة الإسلامية وروحها.

ومنذ تأسيس أول مسجد في المدينة المنوّرة -المسجد النبوي- على يد النبي محمد ، لم يقتصر دور المسجد على العبادة وحدها. فقد كان مركزًا لتنظيم شؤون المجتمع، ومحكمةً للعدل، ومدرسةً للعلم، ومكانًا للتشاور (الشورى)، وملاذًا للفقراء والمحتاجين. وكان النبي نفسه يستقبل الوفود، ويُعلِّم الصحابة، ويَفصل في النزاعات داخل ساحة المسجد المفتوحة، واضعًا بذلك الأساس لوظيفة المسجد الشاملة في الحياة الاجتماعية.

ويشكّل هذا النموذج التأسيسي خطةً خالدة تذكّر المجتمعات المسلمة المعاصرة بأن رسالة المسجد تمتدّ إلى ما هو أبعد من سجاد الصلاة، لتشمل خدمة الإنسان والمجتمع بكل أبعادهما.

وفي جوهره، يظلّ المسجد بيت الله  ملاذًا للذكر والتأمل والصلاة. وفي عالمٍ سريع الإيقاع مثقل بالمادّية والاضطراب الأخلاقي، تُقدّم المساجد للمؤمنين واحةً روحية يستعيدون فيها صلتهم بالإيمان، ويجدون الطمأنينة، ويقوّون علاقتهم بالله تعالى. وإنّ الصلوات الخمس التي تُؤدّى جماعةً تغرس في النفوس قيم الانضباط والتواضع والانتماء، وتوحّد القلوب على ذكر الله وطاعته.

وتُعدّ خُطب الجمعة مصدرًا أساسيًا للتوجيه الأخلاقي للمجتمع، إذ تتناول القضايا الدينية والمعاصرة في ضوء القرآن الكريم والسنّة النبوية. وعندما تُلقى هذه الخطب بعناية وتبصّر، فإنها تُسهم في مواءمة الأخلاق الإسلامية مع واقع الحياة الحديثة، مُعزّزةً قيم التسامح والصدق والرحمة والمسؤولية المجتمعية.

ولطالما ارتبط المسجد ارتباطًا وثيقًا بالعلم والتعلّم. فقد كان العلماء الأوائل، مثل الإمام مالك والإمام الغزالي، يُدرّسون في المساجد، مما جعلها أولى الجامعات في العالم الإسلامي.

وفي القرن الحادي والعشرين، ما زالت هذه السنّة العريقة مستمرة بأشكال متعددة —من خلال دروس القرآن الكريم، وتعليم اللغة العربية، والمحاضرات في الفقه والأخلاق الإسلاميةلتبقى المساجد مناراتٍ للعلم والهداية عبر العصور.

ومع ذلك، باتت المساجد الحديثة تجمع بشكلٍ متزايد بين التعليم الديني والدنيوي. فكثيرٌ منها يستضيف ورش عمل حول الثقافة المالية، والتوعية الصحية، والمسؤولية البيئية، والحوار بين الأديان. ومن خلال تزويد المسلمين بالمعرفة الروحية والعملية معًا، تُسهم المساجد في تمكينهم من الإسهام الفعّال في مجتمعاتهم، مع الحفاظ على جذورهم الإيمانية وثباتهم على القيم الإسلامية الأصيلة.

اقرأ أيضًا: الماخانا.. غذاء فائق يضع ولاية بِيهار على خريطة الغذاء الصحي العالمية

ويُؤكّد القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف مرارًا على قيمة التعاطف والعناية بالمحرومين. وتُجسّد المساجد هذا التعليم عمليًا من خلال الأنشطة الخيرية التي تنظمها، مثل حملات توزيع الطعام، ورعاية الأيتام، ومساعدة اللاجئين، وتقديم الدعم المالي للمحتاجين.

وفي العديد من البلدان، أصبحت المساجد مراكز مجتمعية تقدم الاستشارات الأسرية، ودعم الزواج، وتوجيه الشباب، ودعم الصحة النفسية. وخلال الأزمات -كالكوارث الطبيعية أو الجائحات- غالبًا ما تتحول المساجد إلى مراكز إغاثة وتنسيق، مما يُظهر تركيز الإسلام على التضامن المجتمعي والتعاطف.

 وفي عصرٍ يتّسم بالتفكك الاجتماعي والانقسامات الثقافية والاستقطاب السياسي، تؤدّي المساجد دورًا حيويًا في ترسيخ روح الوحدة.  فالصلاة الجماعية تجمع الناس من مختلف الخلفيات تحت سقفٍ واحد، مُلغيةً الفوارق العرقية والطبقية والمادية. وتجسّد روح المساواة هذه قول النبي : "لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأبيض على أسود، ولا لأسود على أبيض إلا بالتقوى، الناس من آدم، وآدم من تراب".

ومن خلال استضافة حواراتٍ بين الأديان، ومنتدياتٍ مجتمعية، وفعالياتٍ ثقافية، تسهم المساجد في تعزيز التفاهم المتبادل بين المسلمين وغير المسلمين.  فهي تعمل كجسور تواصلٍ بين المجتمعات، تُبدّد الصور النمطية الخاطئة وتُرسّخ قيم الاحترام المتبادل.

وتُعدّ رعاية الشباب إحدى أهمّ المسؤوليات في المساجد الحديثة. فالكثير من الشباب المسلمين اليوم يواجهون أزمات هوية، وضغوط الأقران، وحيرة فكرية ناجمة عن تحديات العصر. فإنّ توفير بيئةٍ مسجديةٍ مرحِّبة ومحفِّزة للشباب -من خلال برامج مخصصة لهم، وأنشطة رياضية، وورش تطوير المهارات، وفرص التطوع- يُسهم في توجيه طاقتهم نحو الإيجابية، ويُعينهم على التمسّك بإيمانهم والمشاركة الفاعلة في بناء مجتمعاتهم. وعندما تُتيح المساجد للشباب تولّي أدوار قيادية، فإنها تضمن استمرارية القيم الإسلامية وتشجّع على الابتكار المبني على المبادئ الأخلاقية.

ولقد غيّر العصر الرقمي الطريقة التي تعمل بها المساجد وتتواصل مع مجتمعاتها؛ فالخُطب المباشرة عبر الإنترنت، ودروس القرآن عبر الإنترنت، والتواصل عبر وسائل التواصل الاجتماعي، مكّنت المساجد من تجاوز الحدود الجغرافية. وهذا الانفتاح الرقمي يضمن بقاء المسلمين -حتى أولئك الذين يعيشون في المناطق النائية أو في دولٍ غير مسلمة- على صلةٍ روحيةٍ دائمة بمساجدهم وهويتهم الإيمانية.

ومع هذه التطورات، تبرز مسؤولية أخلاقية في استخدام التكنولوجيا استخدامًا رشيدًا لنشر العلم والوحدة والرحمة، بدلاً من التفرقة أو نشر المعلومات المضلِّلة.

وعلى الرغم من الإمكانات الهائلة للمساجد، فإنها تواجه تحدياتٍ عصرية متعددة، من بينها تراجع مشاركة الشباب، ونقص التمويل، والحاجة إلى أئمةٍ ودعاةٍ مؤهَّلين يمتلكون فهمًا عميقًا للقضايا المعاصرة. كما تُعاني بعض المساجد من خلافات داخلية أو نماذج إدارية تقليدية تُقيّد شموليتها وقدرتها على التفاعل مع متطلبات العصر.

ومع ذلك، تفتح هذه التحديات أيضًا آفاقًا للإصلاح والتجديد. وإن تبني الإدارة المهنية، والمساحات الشاملة للجنسين، والحوكمة الشفافة، والشراكات المجتمعية، من شأنه أن يُنعش دور المسجد كمؤسسة تقدمية وشاملة وديناميكية. والمسجد المزدهر هو الذي يربّي مواطنين صالحين يساهمون في النسيج الأخلاقي والاجتماعي لأوطانهم.

فمن خلال برامج التوعية المدنية، والمبادرات البيئية، والأنشطة الخيرية المشتركة، يشجّع المسجد المسلمين على خدمة الإنسانية بروح المسؤولية والعطاء. ويجسّد هذا الانخراط الفعّال المبدأ القرآني الكريم: ﴿كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ، تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾ (آل عمران/ الآية: 110). ومن خلال ترسيخ روح المسؤولية الاجتماعية، تُذكّر المساجد المسلمين بأن الإيمان لا يقتصر على العبادة الفردية، بل يجب أن يتجلّى في أعمالٍ تخدم المجتمع وتُسهم في صلاحه وازدهاره.

قصص مقترحة