الهجرة في الإسلام: حق في الكرامة قبل أن تكون واقعًا إنسانيًا

18-12-2025  آخر تحديث   | 18-12-2025 نشر في   |  أحمد      بواسطة | آواز دي وايس 
الهجرة في الإسلام: حق في الكرامة قبل أن تكون واقعًا إنسانيًا
الهجرة في الإسلام: حق في الكرامة قبل أن تكون واقعًا إنسانيًا

 


أويس ثقلين أحمد*

عندما صعدت سيندي نغامبا إلى منصة التتويج الأولمبية في باريس صيف العام الماضي، لم تكن تحمل مجرد ميدالية، بل قصة إنسانية ثقيلة المعنى. فقد دخلت الملاكمة الكاميرونية، البالغة من العمر 25 عامًا، التاريخ كأول رياضية من فريق اللاجئين تحرز ميدالية أولمبية. وفي تلك اللحظة، لم يُعزف لها نشيد وطني ولم يُرفع علم بلدها، إذ نافست تحت راية فريق اللاجئين الأولمبي، بعدما أصبحت العودة إلى وطنها مستحيلة خوفًا من الاضطهاد بسبب ميولها الجنسية.

وقالت سيندي نغامبا، بعد فوزها بالميدالية البرونزية، لتصبح أول رياضية من فريق اللاجئين تحرز ميدالية في تاريخ الألعاب الأولمبية، كلمات كان لها وقعٌ عميق "أنا أمثّل أكثر من 120 مليون شخص نازح حول العالم، لديهم أحلام، لكنهم لم تُتح لهم الفرص".

وفي تلك اللحظة، لم تكن تتحدث باسمها فقط، بل عبّرت عن صوت كل مهاجر يساهم في بناء مدن لا يستطيع العيش فيها، ويرعى أطفالًا ليسوا أبناءه، وينظّف أرضيات بينما تتراكم أحلامه الخاصة في الظل.

وجاء في القرآن "رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا.

وإن قصة النزوح واللجوء ليست ظاهرة مستجدة في التاريخ الإنساني. منذ أكثر من أربعة عشر قرنًا، اضطرّ النبي محمد ﷺإلى مغادرة مكة تحت تهديد الاغتيال، ليصل إلى المدينة لاجئًا مطاردًا، غير أن ما جرى هناك شكّل نموذجًا إنسانيًا فريدًا في التعامل مع اللجوء.

وجسّد أنصار المدينة نموذجًا رفيعًا للتكافل الإنساني، حين أقاموا أواصر الأخوّة مع المهاجرين، فشاركوا معهم المساكن وموارد الرزق وفرص العمل، لا على سبيل الإحسان العابر أو المنّة المؤقتة، بل بوصفها شراكة حقيقية ترسّخ قيم المساواة وتحفظ الكرامة الإنسانية.

وقد خلّد القرآن هذا الموقف الأخلاقي الرفيع، حين أثنى على الذين"تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ۚوَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ"، في تأكيد واضح على أن نصرة اللاجئ ليست عبئًا، بل قيمة إنسانية سامية، حتى في ظل شحّ الموارد وقسوة الظروف.

إذا تجوّلت اليوم في شوارع مومباي عند الفجر، أو في أزقة دلهي مع الغروب، ستلمس المشهد ذاته يتكرر بصور مختلفة. حركة بشرية لا تهدأ، وأناس شدّهم الأمل من القرى إلى المدن بحثًا عن فرص عجزت مناطقهم الأصلية عن توفيرها.

فقد أظهرت إحصاءات التعداد السكاني في الهند عام 2011م، أن هناك أكثر من 450 مليون مهاجر داخلي انتقلوا من القرى إلى المدن بحثًا عن فرص لم تعد مناطقهم الأصلية قادرة على توفيرها. ويضاف إلى ذلك عمّال من بنغلاديش، وحراس من نيبال، وروّاد أعمال من أفريقيا، في صورة تعكس حراكًا بشريًا واسعًا ومتداخلًا. وعلى المستوى العالمي، تشير تقديرات الأمم المتحدة إلى أن نحو 281 مليون شخص يعيشون اليوم خارج بلدان ميلادهم، فيما تُعدّ الهند في آنٍ واحد دولةً يهاجر منها الملايين إلى الخارج، وتستضيف في الوقت نفسه ملايين آخرين على أراضيها.

وقدّم النبي ﷺ في أول خطاب له بالمدينة رؤية عملية لبناء مجتمع متماسك، تقوم على نشر السلام، وتكافل الناس، وتعزيز القيم الروحية، كإطار إنساني لاستيعاب الوافدين وبناء الانسجام المجتمعي. وقال: "يا أيها الناس: أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصِلُوا الأرحام، وصلّوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام"رواه أحمد والترمذي والحاكم، وصححه الترمذي والحاكم ووافقه الذهبي.

ويكشف الواقع المعاصر فجوة مؤلمة بين القيم الإنسانية والممارسة الفعلية، إذ يواجه العمال المهاجرون حول العالم—ولا سيما نحو 11.5 مليون عاملٍ وعاملة في الخدمة المنزلية حول العالم، غالبيتهم من النساء—انتهاكات جسيمة تشمل مصادرة الجوازات وسرقة الأجور وسوء المعاملة. وتشير الأرقام إلى آلاف الوفيات أثناء الهجرة، فيما تختزل كل حالة معاناة إنسانية صامتة خلف الإحصاءات.

وتنص صحيفة المدينة،  أول دستور مدني في الإسلام، على مبدأٍ راسخ مفاده أن حقوق المهاجرين لا تقلّ عن حقوق من استضافوهم، مؤكّدًا المساواة الكاملة في الكرامة والحقوق. ويعزّز القرآن الكريم هذا المعنى في قوله تعالى: "وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ".

والحماية والحقوق التي مُنحت للمهاجرين في بدايات التاريخ الإسلامي لم تكن شعارات دينية مجردة، بل ممارسة واقعية يومية. ومع مرور الزمن، تراجعت هذه القيم رغم أن الهجرة تجربة إنسانية مشتركة؛ فكل أسرة تقريبًا تحمل في تاريخها قصة انتقال أو نزوح، ما يذكّر بأننا جميعًا أبناء أناس بدأوا حياتهم في أماكن جديدة بين الخوف والأمل.

وشهد فريق اللاجئين الأولمبي تطورًا لافتًا خلال السنوات الأخيرة، إذ ارتفع عدد أعضائه من 10 رياضيين في أولمبياد ريو 2016م إلى 37 رياضيًا في أولمبياد باريس 2024م. وقد جسّد رياضيون مثل لاعبة الجودو السورية منى دهوك، راكبة الدراجات الأفغانية معصومة علي زاده، والملاكمة الكاميرونية سيندي نغامبا، حقيقة عميقة مفادها أن النزوح لا يطفئ الأحلام ولا يقلّص الطموح.

وقال النبي ﷺ"كن في الدنيا كأنك غريب ، أو عابر سبيل". يدعو هذا الحديث إلى إدراك أن الإنسان عابر في هذه الدنيا، أشبه بغريب أو مسافر، وهو تذكير بعدم التعلّق المفرط بالمكان أو الامتياز، وبألا نجعل الآخرين يشعرون بالغربة أو الإقصاء، لأننا جميعًا نشترك في حقيقة واحدة" وهي الإقامة المؤقتة على هذه الأرض.

وتعكس الحياة اليومية مفارقات قاسية يعيشها العمال والمهاجرون، إذ يساهمون في بناء المدن وخدمة مجتمعاتها، بينما يُحرمون من أبسط حقوق الاستقرار والوقت مع أسرهم. وهم لا يسعون إلى الشفقة، بل إلى العدالة والكرامة وفرص عادلة لأبنائهم وحياة آمنة تحترم إنسانيتهم.

وفي هذا اليوم الدولي للمهاجرين، يفرض السؤال نفسه ببساطته المؤلمة: "متى كففنا عن النظر إلى حارس الأمن بوصفه أبًا لإنسان ما؟"، ومتى تحوّل سؤال "من أين أنت؟" إلى استجواب مشوب بالشك والريبة؟

ولم يكتفِ الأنصار باستقبال المهاجرين أو التعايش معهم، بل اقتسموا معهم بيوتهم وأموالهم، لا لأنهم يملكون فائضًا، بل لأنهم رأوا أنفسهم في وجوه الغرباء. فالغريب، في جوهره، ليس سوى فرد من العائلة لم نلتقِ به بعد.

وربما يكون المطلوب اليوم بسيطًا في ظاهره، عميقًا في أثره: أن تتعلّم اسم حارس المبنى الذي تمرّ به كل يوم، أن تسأل العاملة المنزلية عن أحلامها لا عن مهامها فقط، وأن تمنح عامل التوصيل تقديرًا يليق بجهده ووقته. قد تبدو هذه أفعالًا صغيرة، لكنها في جوهرها بداية تحوّل حقيقي؛ فكل تغيير عميق يبدأ بلحظة إنسانية صادقة، حين نعيد رؤية أشخاص اعتدنا المرور بهم من دون أن ننتبه إلى إنسانيتهم.

ونحن جميعًا غرباء في لحظة ما؛ فالمقيم اليوم قد يكون وافد الأمس، وما يحمينا الآن قد يُقصينا غدًا.

اقرأ أيضًا: الاختبار الذي يعود إلى 1400 عام.. وما زلنا نرسب فيه مرارًا: لمحة في يوم حقوق الإنسان

وليس السؤال عمّا إذا كنّا قادرين على أن نمنح اللطف والإنصاف لمئات الملايين من المهاجرين حول العالم، بل السؤال الحقيقي هو هل نستطيع أن نتحمّل غياب هذا اللطف؟