محمد إقبال: شاعر الإنسانية الذي رأى في تنوّع الهند مصدر قوتها ووحدتها

09-11-2025  آخر تحديث   | 08-11-2025 نشر في   |  أحمد      بواسطة | آواز دي وايس 
محمد إقبال: شاعر الإنسانية الذي رأى في تنوّع الهند مصدر قوتها ووحدتها
محمد إقبال: شاعر الإنسانية الذي رأى في تنوّع الهند مصدر قوتها ووحدتها

 


الدكتور ظفر دارك القاسمي*

ويُعدّ العلاّمة محمد إقبال أحد أبرز الأصوات الفكرية والشعرية التي شكّلت الوعي الجمعي في شبه القارة الهندية مطلع القرن العشرين، إذ تجاوز شعره حدود الإلهام الأدبي ليصبح مشروعًا يدعو إلى اليقظة والوعي بالذات والإخلاص للوطن. ويُعدّ أحد أعظم الشعراء والمفكرين والمصلحين في القرن العشرين.

وجاءت الرؤية الشعرية لمحمد إقبال مزيجًا من العمق الفكري والسموّ الروحي، إذ وجّه من خلالها دعوته إلى الإنسانية جمعاء نحو الوعي بالذات وصون الكرامة والارتقاء الأخلاقي. وعبّر إقبال في قصائده عن إعجابٍ عميقٍ بأرض الهند وثقافتها وتاريخها وتنوّعها وجمالها الأخلاقي.

وتُعدّ قصيدة محمد إقبال الشهيرة "ترانۂ ہندی" من أخلد التعبيرات الشعرية عن حبّ الوطن واعتزاز الشاعر بهويته الهندية، حيث يقول فيها:

سارے جہاں سے اچھا ہندوستاں ہمارا

ہم بلبلیں ہیں اس کی یہ گلستاں ہمارا

"الهند أجملُ ما في الكون وطنًا، ونحن بلابلها التي تُغنّي في بُستانها"

وتجسّد هذه الأبيات الرابطة الوجدانية والروحية العميقة التي جمعت إقبال بوطنه الأم، حيث عبّر من خلالها عن مثله العليا في الوحدة والأخوّة والفخر الوطني. وقد صوّر في مراحله الشعرية الأولى الهندَ بوصفها مركز حبّه ومصدر اعتزازه، فارتبط بروحها وجمالها الطبيعي وعظمتها التاريخية، وغرس في قصائده مشاعر صادقة من الانتماء والولاء للوطن.

ويقدّم محمد إقبال في فلسفته الشعرية تصورًا عميقًا للهوية الوطنية، بوصفها بناءً أخلاقيًا وروحيًا يتجاوز حدود العِرق والدين. فهو يرى أن أساس الانتماء الحقيقي للوطن لا يكمن في الدم أو العقيدة، بل في العدل والأخوّة والمحبّة التي توحّد أبناء الوطن.

وقد عبّر عن هذا المبدأ في قصيدته الشهيرة "نيا شواله" "المعبد الجديد). ويقول إقبال:

مذہب نہیں سکھاتا آپس میں بیر رکھنا

 ہندی ہیں ہم وطن ہے ہندوستاں ہمارا

"الدين لا يعلّمنا الكراهية أو الخصومة، فنحن هنود، ووطننا هو الهند"

وتعكس هذه الأبيات حلم محمد إقبال بانسجامٍ روحي وإنساني بين مكوّنات المجتمع الهندي المتنوّعة، إذ دعا إلى تقدّمٍ مشترك يقوم على الوحدة والاحترام المتبادل.

ورغم أنّه فيلسوف مسلم، فإن إقبال عبّر عن تقدير عميق لتراث الهند الفلسفي والروحي القديم، فرأى في الفكر الفيداني والبوذي والهندوسي مسارًا مشتركًا للإنسانية في بحثها الدائم عن الحقيقة والمعنى. وفي قصيدته "رام"، عبّر عن هذا الاحترام بقوله:

ہے رام کے وجود پہ ہندوستاں کو ناز

اہل نظر سمجھتے ہیں اس کو امام ہند

"الهند تفخر بوجود رام، وذوو البصيرة يرونه إمام الهند"

وتعكس هذه الأبيات انفتاح فكر محمد إقبال واتساع رؤيته الفلسفية، إذ أدرك بعمق القيمة الأخلاقية والروحية للحضارة الهندية. وقد تجلّى ذلك في شعره الذي استحضر أنهار الهند وجبالها وأشجارها وفصولها، فأضفى عليها بعدًا فلسفيًا وروحيًا. ففي قصيدته "همالايا" قدّم مثالًا بديعًا على قدرته على استنباط الحكمة من التفاصيل الصغيرة في الطبيعة.

وتُظهر هذه الأعمال أن إقبال جمع بين الحس الجمالي والبصيرة الفكرية، فحوّل الطبيعة إلى مرآةٍ للتأمل الفلسفي ومصدرٍ للإلهام الإنساني، مجسدًا من خلالها إعجابه العميق بجمال الهند وتنوّعها الطبيعي والروحي.

وأبدى محمد إقبال إعجابًا عميقًا بالطابع التعددي للهند وتسامحها الديني وانسجامها الثقافي، ورأى أن عظمة الهند الحقيقية تكمن في تنوّعها ووحدة أبنائها في ظلّ الاحترام المتبادل.

وفي قصيدته "هيمالايا"، عبّر إقبال بلغةٍ رمزيةٍ بديعة عن جمال الطبيعة الهندية وخلودها، قائلًا:

اے ہمالہ اے فصیل کشور ہندوستاں

 چومتا ہے تیری پیشانی کو جھک کر آسماں

"أيها الهيمالايا! أيتها القلعة الشامخة لأرض الهند، إن السماء تنحني لتقبّل جبينك".

رأى محمد إقبال في جبال الهيمالايا أكثر من مجرد لوحة طبيعية ساحرة؛ فقد مثّلت لديه رمزًا لقوة الهند واستقرارها وسموّها الروحي. لقد استخدم إقبال الشعر كوسيلة للتوجيه الأخلاقي والفكري، داعيًا أبناء وطنه إلى التحرّر من الجهل والعبودية، والسير نحو العلم والاعتماد على الذات والحرية الأخلاقية.

وفي قصيدته "خِضرِ راه"، شدّد على أن الاستقلال الحقيقي لا يتحقق بالتحوّل السياسي فحسب، بل بالعلم والعمل والخلق، مؤكدًا أن نهضة الأمة تبدأ من بناء الإنسان الواعي القادر على الفعل والإبداع.

لقد كانت أبياته نداءً للنهضة واليقظة والشجاعة والمسؤولية، فألهمت جيلًا كاملًا من الشباب الهندي للنهوض من سباته، وما تزال أفكاره حاضرةً بقوة في الخطاب الفكري والأخلاقي المعاصر.

واستعاد محمد إقبال في شعره أمجاد الهند التاريخية، فخلّد شخصياتٍ عظيمة مثل الإمبراطور أشوكا، واللورد راما، والمهاتما غاندي بوصفهم رموزًا للإنسانية والعدالة والقوة الأخلاقية.

وقد ربط في قصائده مثل " ترانۂ ہندی" و"نيا شوالا" بين عظمة الماضي الهندي ورؤيته لوطنٍ مستنير يعتزّ بهويته ويؤمن برسالته الحضارية. وفي خطابه الشهير في إله آباد عام 1930م، أكّد إقبال أن عظمة الهند لا تكمن في التقدّم المادي أو القوة السياسية، بل في قوّتها الروحية والفكرية، وفي قدرة شعبها على فهم ذاته وصلته بالله.

ورأى أن الهند، إذا سارت على طريق الأخلاق والعدالة والعلم والاحترام المتبادل، فبوسعها أن تستعيد مكانتها كمنارة تهدي العالم نحو القيم الإنسانية السامية.

وأكد محمد إقبال في خطبه أن قوة الهند الحقيقية تكمن في وحدتها رغم تنوّعها، فبرأيه، إن اختلاف الأديان واللغات والثقافات لا ينبغي أن يكون سببًا للانقسام، بل جسرًا للتلاقي عبر القيم الروحية المشتركة. ورأى أن هذه الوحدة في التنوّع هي أجمل وأقوى مظاهر عظمة.

وفي محاضراته، حدّد إقبال العناصر الحقيقية لعظمة الهند في الروحانية، والأخلاق، والعلم، والإنسانية، معتبرًا إياها أسس التقدّم والوحدة. وقد حملت رؤيته رسالة واضحة لا تزال ذات صلة عميقة في شبه القارة الهندية اليوم.

ويُشكّل مفهوم وحدة الإنسانية محورًا متكرّرًا في فكر محمد إقبال، إذ كان يؤمن بأن عظمة الهند لن تدوم إلا بالحبّ والتسامح والاحترام المتبادل بين أبنائها. فمن وجهة نظره، جاء الدين ليجمع البشر لا ليفرّقهم، فالهند في نظره تجسيدٌ حيّ للانسجام والتعايش، حيث تلتقي الأديان واللغات والتقاليد داخل نسيجٍ حضاري واحد يوحّدها رغم اختلافها.

اقرأ أيضًا: سردار باتيل .. الرؤية التي وحّدت الهند وصاغت هويتها الحديثة

ويرى إقبال أن عظمة الأمم لا تُقاس بجغرافيتها أو ثرواتها، بل بأخلاق شعوبها ومعارفهم ووحدتهم، مؤكدًا أن النهضة الحقيقية تبدأ من بناء الإنسان الواعي القادر على الإسهام في الخير العام.

ولا تزال أشعاره حتى اليوم تذكّر العالم بأن مجد الهند الدائم يقوم على التنوع والتسامح — وهما القيمتان اللتان جعلتا منها واحدة من أرقى وأقدم الحضارات الإنسانية.