مصطلح "كافر" بين الدلالة القرآنية وسوء الاستخدام المعاصر

23-12-2025  آخر تحديث   | 23-12-2025 نشر في   |  أحمد      بواسطة | عظمى خاتون 
مصطلح
مصطلح "كافر" بين الدلالة القرآنية وسوء الاستخدام المعاصر

 


عظمى خاتون*

فقد مصطلح "كافر" كثيرًا من معناه الديني وعمقه الكلامي، وأصبح يُستغل كأداة للتعبئة السياسية، وخطاب الكراهية على وسائل التواصل الاجتماعي، وإثارة العداء الطائفي. وغالبًا ما يُستَخدم المصطلح بوصفه دليلًا قاطعًا على أن الإسلام يقسّم العالم إلى "مؤمنين"و"أعداء"، وهو تصور مبسّط تغذّيه مناظرات إعلامية صاخبة، ومعلومات مضللة تنتشر بسرعة، وسرديات قائمة على التحريض، تسهم في تصوير المسلمين على أنهم غير متسامحين بطبيعتهم.

وفي المقابل، تستغل جماعات متطرفة في مناطق مثل باكستان وبنغلاديش والشرق الأوسط هذا المصطلح لإضفاء شرعية على العنف وممارسات الإقصاء الاجتماعي. وبهذا الاستخدام المشوَّه، يتحمّل المسلمون العاديون في مختلف أنحاء العالم تبعات خطاب لا يمثلهم، في حين أن دلالة المصطلح في السياق القرآني تقوم على معانٍ دقيقة ومحددة، وتخضع لقيود أخلاقية واضحة تمنع توظيفه كسلاح للإدانة أو التحريض.

وتقوم دلالته الأصلية في اللغة العربية والسياق القرآني تقوم على معنى "الستر" ورفض الحقيقة عن وعي وقصد، بوصفه فعلًا سلوكيًا محددًا، لا حكمًا دائمًا على هوية جماعية أو إنسانية.

ومن اللافت أن القرآن الكريم يستخدم هذا المعنى اللغوي في سياق إيجابي عند الحديث عن أن الله "يكفّر" الذنوب، أي يسترها ويغفرها. وهو ما يدل على أن المصطلح يرتبط أساسًا بالاستجابة النفسية والروحية للحقيقة، لا بالانتماء بالولادة، أو العِرق، أو الجماعة الاجتماعية، بل بالفعل الواعي والموقف الأخلاقي من الحق.

ومن أكثر المفاهيم الخاطئة شيوعًا الاعتقاد بأن كل غير مسلم يُوصَف تلقائيًا بالكفر، غير أن الدراسات الإسلامية الرصينة توضّح أن الكفر ليس توصيفًا عامًا يُطلق على كل من هو خارج دائرة الإيمان، بل حالة محددة تقوم على موقف واعٍ من الحقيقة. ويؤكد عدد من العلماء، ومن أبرزهم جاويد أحمد غامدي، أن الكفر لا يتحقق إلا عندما يرفض الفرد الحق عن علم وإصرار، بعد أن يكون قد تبيّن له بوضوح لا يدع مجالًا للشك، وهو ما يُعرف في التراث الإسلامي بمفهوم "إتمام الحجة".

وارتبط هذا المستوى من اليقين القاطع بوجود الرسل الذين كانوا وحدهم قادرين على إقامة الحجة بصورة قاطعة. وفي غياب نبي يوفّر هذا المستوى من الوضوح، لا يمتلك أي إنسان صلاحية الحكم على بواطن الآخرين أو تقييم صدق إيمانهم. ومن هذا المنطلق، فإن إصدار أحكام التكفير يتجاوز الحدود الإلهية، لأنه يقوم على افتراض معرفة بالغيب، وهي سلطة لا يملكها إلا الله وحده.

وفي المجتمعات التعددية مثل الهند، يكتسب هذا التمييز أهمية خاصة؛ فبينما قد تفرّق الأطر القانونية أو الإدارية بين المسلمين وغير المسلمين، فإن تحويل المفاهيم العقدية إلى أدوات للإهانة أو الإذلال يتعارض مع أخلاقيات الإسلام. ويؤكد القرآن أن محاسبة الإيمان ليست من شأن البشر، بل هي بيد الخالق وحده، محذرًا من مراقبة عقائد الآخرين أو الحكم عليها. ويتجلى هذا المنهج بوضوح في قصة نبي الله موسى مع فرعون، إذ رغم طغيان فرعون ورفضه الصريح للحق، أمر الله موسى بأن يخاطبه بلطف، ما يرسّخ مبدأ الحوار القائم على الاحترام. وإذا كان هذا الخطاب اللين مطلوبًا حتى مع فرعون، فلا يحق لأي إنسان أن يسيء إلى غيره باسم الدين.

وقد جسّد النبي محمد ﷺ هذا المبدأ في سلوكه وأخلاقه؛ فعندما طُلب منه أن يدعو على المشركين، قال: "لم أُبعث لعّانًا، وإنما بُعثت رحمة". كما بيّن أن المؤمن الحق هو من لا يسبّ ولا يشتم ولا يتفحّش في القول. ومن ثمّ، فإن استخدام لفظ "كافر" على سبيل الإهانة لا يعكس روح الإيمان، بل يتنافى مع الأخلاق النبوية. ويؤكد القرآن هذا النهج حين يصف اليهود والنصارى بـأهل الكتاب، مبرزًا صلتهم بالوحي، بدل التعامل معهم من خلال أوصاف عدائية.

كما تضع الشريعة الإسلامية قيودًا صارمة على أي خطاب يُلحق الأذى بالآخرين، أو المساس بكرامتهم. فقد نصّ فقهاء من المذهبين الحنفي والحنبلي على أن سبّ غير المسلم أو إهانته محرّم شرعًا. وذكر الفقيه الحنفي ابن نجيم أن عبارة "أنت كافر" لغير المسلم لا يجوز، لما يترتب عليه من أذى نفسي وإساءة محرّمة.

كما قرّر فقهاء آخرون عبر التاريخ أن المسلم الذي يُهين غير المسلمين المشمولين بالحماية يتحمّل المسؤولية، لأن المساس بكرامتهم يُخالف الالتزامات الشرعية. ويستند هذا التراث الفقهي إلى توجيه قرآني واضح: "ولا تنابزوا بالألقاب" (الحجرات: 11)، بما يؤكد أن حفظ الكرامة الإنسانية أصل ثابت في الفقه الإسلامي.

ويمضي القرآن أبعد من ذلك حين يحذّر المسلمين من الإساءة إلى ما يعبده الآخرون حين يقول: وَلَا تَسُبُّوا ٱلَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ فَيَسُبُّوا ٱللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَٰلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّهِم مَّرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ". فالكلمات لا تُقال في فراغ، بل تعمل داخل سياقات اجتماعية تحكمها علاقات قوة وتأثير. وفي العالم المعاصر، حيث يشكّل المسلمون أقليات هشّة في كثير من المجتمعات، يمكن أن تتحول التسميات الدينية بسهولة إلى أدوات للإقصاء أو إشارات تُمهّد للعنف.

وإن توظيف مصطلح "كافر" بلا مسؤولية في هذا السياق لا يُعد سلوكًا غير أخلاقي فحسب، بل ينطوي أيضًا على مخاطر جسيمة. وهو ما يستدعي مواجهة الاستغلال المتطرف للمفهوم بوضوح وصدق، بعدما حوّلته جماعات متطرفة إلى أداة سياسية تُبرّر العنف وتغذّي الفوضى. وقد أسفر هذا الانحراف عن إلحاق أذى بالغ بالمجتمعات المسلمة من الداخل، وأسهم في تصاعد ظاهرة الإسلاموفوبيا عالميًا، في تناقض واضح مع روح القرآن ومقاصده الأخلاقية.

ويعتقد بعض الناس أن ورود مصطلح "كافر" في القرآن يتيح للمسلمين استخدامه بحرّية في خطابهم، غير أن هذا الطرح يتجاهل فارقًا جوهريًا بين الوصف الإلهي والإساءة البشرية. فالقرآن يبيّن الحقائق في إطار أخلاقي وتشريعي منضبط، ولا يحثّ المؤمنين على توظيف اللغة للإدانة أو التحريض. ومن هنا جاءت الشريعة الإسلامية أصلًا لضبط الخطاب والسلوك، ومنع منطق الوصاية الأخلاقية.

وإن ضبط اللسان أخلاقيًا ليس ضعفًا، بل هو تعبير عن قوة الانضباط الروحي. فقد نبّه النبي ﷺإلى أن الأذى اللفظي كثيرًا ما يعود على صاحبه، وضرب مثالًا بمن يسيء إلى والدي غيره فيُساء إلى والديه بدوره. فإن استخدام اللغة الدينية لإهانة الآخرين لا يسيء إليهم فحسب، بل يفتح الباب للعداء تجاه الدين نفسه. وقد لخّص النبي ﷺهذا المعنى حين قال: المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده"، وهو توصيف لا يترك مجالًا لتبرير العنف اللفظي باسم العقيدة.

وإن استعادة المعنى القرآني لمصطلح "كافر" لا تتعلق بالدفاع عن كلمة بعينها، بل بالدفاع عن أخلاقيات الإسلام ذاتها. فالمشكلة لا تكمن في لغة القرآن، وإنما في إساءة توظيفها من قبل متطرفين أو أطراف سياسية أو دعاة غير مسؤولين. ومن هنا تبرز مسؤولية الكتّاب والمعلّمين والمفكرين في التأكيد على أن الإيمان لا يُختصر في شعارات، وأن الخطاب الديني لا يُبنى على الإهانة، بل على الحكمة والموعظة الحسنة، لا على الإهانة والكراهية.

اقرأ أيضًا: 2025: الهند تواصل صعودها كقوة عالمية بثقة متزايدة

وفي مجتمع يعاني انقسامات عميقة، ينبغي على المسلمين أن يكونوا أول من يرفض إساءة استخدام لغتهم الدينية. فحماية الكرامة الإنسانية ليست فكرة طارئة، بل مبدأ قرآني راسخ. وعندما يلتزم المسلمون بهذا النهج، فإنهم لا ينتقصون من إيمانهم، بل يجسّدون معناه الحقيقي. ولا سبيل إلى إنقاذ المفاهيم الدينية من التحوّل إلى أدوات للضرر إلا عبر ضبط اللسان والحكمة والشجاعة الأخلاقية، بما يعيدها إلى مقصدها الأصيل: الهداية والعدل والرحمة للجميع.