إيمان سكينة
من بين الموضوعات العميقة التي تتعلق بتعاليم الإسلام، يبرز مفهوم الرزق -الذي يُترجم غالبًا إلى المعاش أو العطاء- بوصفه أحد أكثر المفاهيم طمأنينة وقوةً روحية. فهو مفهوم يُسهم في تشكيل نظرة المسلم إلى العالم، ومواقفه، وطموحاته، وكفاحه اليومي. والرِّزق في الإسلام لا يقتصر على الثروة المادية فحسب، بل يشمل كل نعمة تُقيم حياة الإنسان: من الصحة والوقت، إلى الفرص والعلاقات والمعرفة، بل وحتى السكينة الداخلية.
وإن إدراك الرزق على حقيقته يمنح المؤمن قدرة على العيش برضا، والسعي بهدف واضح، والثقة الثابتة بالله تعالى. فهو يذكّرنا بأن ما نُعطاه في هذه الحياة ليس مصادفة؛ بل هو مقدّر، وله معنى، ومُهيّأ إلهيًا بما يناسب رحلتنا. وعندما يستوعب الإنسان مفهوم الرزق بهذه النظرة الشمولية، يتحوّل القلق إلى طمأنينة، ويذوب الطمع في بحر من السخاء، ويتعلم القلب أن يمضي في الحياة بكرامة وغاية وسكينة، مدركًا أن كل رزق موزون بعناية من لدن حكيم عليم.
ويُعلّم الإسلام أن الله وحده هو الرزّاق — المزوّد الأعلى بكل أنواع الرزق. ويكرّر القرآن هذه الحقيقة حتى لا يعلّق القلب آماله على الناس أو المؤسسات أو الظروف. ويقول الله تعالى: ﴿وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا﴾ (هود: 6). ولا تُبرز هذه الآية مجرد وعدٍ إلهي، بل تكشف عن علم الله الشامل. فكل مخلوق معلوم عند الله، مرئيّ له، ومحاط برعايته. والرِّزق لا يُنسى، ولا يضلّ طريقه، ولا يتجاوز من كُتب له مهما تغيّرت الأسباب والظروف.
وفي المقابل، لا يدعو الإسلام إلى السلبية. فقد علّمنا النبي ﷺ أن نعمل ونجتهد ونسعى لتحصيل أرزاقنا بالطرق المشروعة، مع اليقين بأن بذل الجهد واجبٌ علينا، وأمّا الرزق فهو قضاء مقدّر من الله تعالى. وهذا التوازن بين السعي والتوكّل هو جوهر النضج الروحي. وفي الاستعمال اليومي، كثيرًا ما يُختزل مفهوم الرزق في المال، ولكن التعاليم الإسلامية تقدّم فهمًا أوسع وأشمل بكثير لهذا المفهوم.
ويشمل الرزق في الإسلام: الثروة المادية: المال، والأعمال التجارية، والممتلكات، والطعام، والملبس؛ والصحة والقوة: القدرة على العمل، والتفكير السليم، والتحرك بحرّية؛ والعلم والحكمة: الفهم الذي ينفع الإنسان في حياته ودينه؛ والعلاقات: الوالدان المحبّان، والأصدقاء الأوفياء، والأبناء الصالحون؛ والوقت والفرص: إمكانية التعلّم، ومساعدة الآخرين، ونيل الأجر؛ والعطايا الباطنية: الرضا، والصبر، والامتنان، وراحة البال.
وقد لا يملك الإنسان ثروةً كبيرة، لكنه قد يكون غنيًّا بأشكال الرزق الثمينة هذه. وقد ذكّرنا النبي ﷺ بقوله: "ليس الغِنى عن كثرة العرض، ولكن الغِنى غِنى النفس".
ويولي الإسلام أهمية كبيرة لطلب الرزق الحلال. فالثروة التي تُكتسَب بالصدق والعدل والنزاهة تجلب البركة. وأمّا المال الذي يُحصَّل بالغش أو الظلم فقد يزيد في العدد، لكنه يفقد قيمته الروحية.
وإن الكسب الحلال لا يقتصر على الالتزام بالأحكام الشرعية، بل يعكس التزام المؤمن بالعيش الأخلاقي وثقته بأن الله قادر على أن يرزق دون أي تنازل.
وقد قال النبي ﷺ إن الإنسان الذي يكون طعامه ولباسه ودخله من مصادر غير مشروعة، يفقد أثر القبول الروحي في دعائه. وهذا يبيّن أن الرزق الحلال ليس مسألة مالية فحسب، بل هو قضية تتعلق بنقاء القلب واستقامة الطريق.
ويُعدّ من أصعب جوانب الحياة مواجهةَ عدم اليقين في الرزق مثل فقدان العمل، والضيق المالي، وتأخر الفرص، أو ظهور العقبات غير المتوقعة. ويعلّمنا الإسلام أن هذه الشدائد ليست علامة على الهجران، بل قد تكون اختبارات، أو حماية، أو طرقًا نحو النمو.
وقد يمنع الله شيئًا عن الإنسان: لحمايته من الكِبر أو الفساد؛ أو ليوجهه إلى فرصة أفضل؛ أو ليقوّي شخصيته؛ أو ليذكّره بأن المال ليس الهدف النهائي في الحياة.
وإن الرزق لا يُوسَّع دائمًا لأن الله راضٍ عن الإنسان، ولا يُضيَّق دائمًا لأنه ساخط عليه؛ بل إن كلاً منّا يُقدَّر له رزقٌ مصمَّم بدقّة ليقرّبه من الله.
ويعد الله بأن الشكر يزيد النعم: ﴿لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ﴾ (إبراهيم: 7). وإن الشكر يغيّر الطريقة التي ينظر بها المؤمن إلى حياته؛ فبدلًا من الانشغال الدائم بالمطاردة وراء الإنجازات المقبلة، يتعلّم أن يقدّر ما بين يديه الآن. وتصبح القناعة درعًا يحمي من القلق، ومصدرًا لقوة هادئة في القلب.
اقرأ أيضًا: أسرةٌ هندوسية في ولاية غرب البنغال يقوم برعاية مسجدٍ منذ أكثر من خمسين عامًا
ومن المثير للاهتمام أن الإسلام يعلّم أن زيادة الرزق لا تتحقّق فقط عبر ارتفاع الدخل أو كثرة المكاسب، بل قد تكون في البركة التي يضعها الله في الموجود—فتزداد فائدته وكفايته ودوام نفعه.
وقال النبي ﷺ: "لو أنكم توكلون على الله حق توكله، لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصا، وتروح بطانا".
وتُعلّمنا هذه الصورة البديعة أن الثقة بالله لا تلغي السعي؛ فالعصافير تطير وتبحث وتجتهد، لكن قلوبها خالية من الخوف لأنها تعلم أن رزقها ينتظرها. وهكذا يُشجَّع المؤمن على العمل بلا قلق، وأن يربط جهده بإيمان راسخ.
كما يعلّم الإسلام أن العبادات —كالصدقة والإحسان والصلاة والاستغفار— قد تكون أبوابًا لفتح أبواب الرزق. فقد يأتي الرزق للإنسان بطرق لم يكن يتوقعها، ومن مسارات لم تخطر بباله. قال الله تعالى: ﴿وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ ۚ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ﴾ (الطلاق: 3).