ملك أصغر هاشمي/نيودلهي
ترجمة: تبريز أحمد
حين بدأت الممثلة الهندية ديفيا دتّا تستحضر برفق ذكريات الشاعر والكاتب الغنائي سامبوران سينغ كالرا، المعروف شعبيا باسم "غلزار"، بدأت طبقاتٌ من المشاعر المكبوتة التي ظلّت ساكنة لسنوات، تنفلت وتتدفق بلا مقاومة. وكانت الدموع تترقرق في عيون الحاضرين، فيما وصل غلزار، الجالس على المنصة، إلى لحظة انفعال عميقة وهو يستعيد حكايته، لحظة خانته فيها الكلمات.
وكان غلزار يلقي كلمته في الجلسة الافتتاحية التي شكّلت انطلاق مهرجان جشنِ ریختہ، الاحتفال الممتد لثلاثة أيام باللغة الأردية وإرثها الثقافي والفني. وأقيمت الفعالية مساء الجمعة في بانسيرا، أول متنزّه ترفيهي للخيزران في المدينة، والواجهة النهرية الجديدة التي تعيد صياغة علاقة دلهي بنهر يامونا.
وقد افتتح نائب حاكم دلهي، فيناي كومار ساكسينا، هذا المهرجان السنوي الذي ينتظره عشّاق الأردية بشغف كبير، إدراكًا منهم لقيمته كمجال يضمّ الأدب والموسيقى والهوية الثقافية.

وقال ساكسينا عن غلزار إنه "كنز نادر وموهبة لا تنفد وجوهها"، ولكن السحر الحقيقي بدأ يتكشّف في جلسة سَمْواد (الحوار)، حين جلست ديفيا دتّا تفتح معه أبواب الذاكرة. وراحت تسأله عن طفولته، وعن الوجوه التي شكّلت حياته، وعن تلك اللحظات التي ظل بريقها ملازمًا له عبر الزمن… فانسابت الحكايات كما لو أنها تنتظر هذه اللحظة منذ سنوات.
وكان غلزار يخاطب والده بـ"بيتا جي"، و"بابا جي"، وأحيانًا بـ"أبّو جي". وُلد في قرية ذات أغلبية مسلمة في ما أصبح اليوم باكستان، والطريقة الرقيقة التي كان أطفال القرية ينادون بها آباءهم بـ"أبّو جي" لامست قلبه إلى حدّ أنه اختار هذا النداء ليخاطب به والده هو أيضًا.
ويستعيد غلزار ذكرياته قائلاً، إن مسابقات "بيت بازي" الشعرية في المدرسة كانت تكشف منذ الصغر ذلك الوميض اللغوي الذي يحمله؛ فسرعان ما كان يلفت الأنظار بقدرته على ملامسة الكلمة وإخراج موسيقاها.

وكان معلمه يرى فيه موهبة مختلفة، لذلك شجّعه على المضيّ في هذا الطريق. وأما غلزار، فكان يأخذ الأمر بجدية طفل يطمح إلى الفوز دائمًا، فيلجأ بمهارة إلى تعديل أبيات معروفة ويعيد تقديمها بأسلوبه، وكأنها من إبداعه. ومع مرور الوقت، تحوّل هذا الأسلوب من مجرد حيلة تنافسية إلى بوابة دخول عالم الشعر.
وفي تلك المرحلة التي كان الشعراء فيها يختارون "تخلّصًا" لهم، يوقّعون به أعمالهم، اختار لنفسه اسم غلزار؛ اسمٌ لم يكن مجرد لقب أدبي، بل ملامح هوية أخذت تتشكّل وتترسّخ مع الزمن.
ولكن والده كان يرى في كل ذلك مجرد "تضييع للوقت"… خطوات بلا وجهة. وأراده أن يترك الشعر ويبحث عن "وظيفة محترمة". ولم يكن يخطر ببال أحد أن هذا الطريق المتعرّج الذي بدا بلا معنى، سيصوغ يومًا ما واحدة من أجمل الهدايا التي قدّمتها الهند لشعرها وأغنيتها وسينماها. ولهذا لا يتردّد نائب حاكم دلهي في أن يقول بكل فخر: "أعدّ نفسي محظوظًا لأنني أتشارك المنصة مع السيد غلزار صاحب".

ومع ذلك، يظل في قلبه وجعٌ صغير لأن والده لم يكن موجودًا ليرى نجاحه، إذ قال بحسرة هادئة: "أبّوجي لم يعش ليرى كل هذا".
وكانت أمّه قد غابت عن الدنيا وهو ما يزال طفلًا، ولكن ذكراها بقيت حيّة تسكن أطراف قلبه. وما إن نطقت ديفيا باسمها حتى ارتجفت الدموع في عيني غلزار، وكأن بابًا قديمًا انفتح فجأة. وقال بصوت يتهدّج بالشجن: "أمّي كانت في عَجَلة… رحلت كأنها رأت الله في مكانٍ ما، فمضت نحوه".
ويروي غلزار أن الناس كانوا يقولون له إن عينيه تُشبهان عيني أمّه، وأن أُذنيه ربما ثُقبتا لأنها حقّقت له أمنية صغيرة يومًا ما. ولكنه، رغم كل ما سمعه عنها، لا يتذكّر ملامح وجهها… وكأن صورتها انطفأت من الذاكرة وبقي أثرها في الداخل.
وأثناء الحديث، عاد غلزار يلامس بذاكرته ظلَّ الممثل الراحل سانجيف كومار، الذي كان يناديه بمحبة: "هاري بهاي"، وارتسمت على وجهه ابتسامة يملؤها الشجن. الشعر، والأردية، والسينما، والأصدقاء… كلما وردت هذه الكلمات في الحديث، توقظ في صوته صدى خفيًّا، كأنها تلمس وترًا قديمًا في روحه. ذلك الصدى لا يصدر إلا عن قلبٍ يسكنه الفن من الداخل، لا من أطرافه.
ويحب غلزار البنغالية والبنجابية والأودهية، ولكن للأردية مكانًا لا ينافسه شيء في قلبه؛ فهو يعشق حلاوتها وتهذيبها. ويقول مبتسمًا: "الأردية تمنحك شعورًا بالثراء حتى لو كنت فقيرًا… فالفَقير إذا تحدّث بأردية رقيقة، بدا وكأنه نوّاب".
Gulzar Sahab in conversation with Divya Dutta ♥️ #JashneRekhta #10YearsofJashn #Jashn pic.twitter.com/DqBOwl9rFJ
— Jashn-e-Rekhta (@JashneRekhta) December 5, 2025
وأُعجب غلزار بجمال مهرجان ريختة وقال إن بلوغ الأردية إلى هذا المستوى أمر مذهل. وفي أمسية بانسيرا، حيث كان يستعيد ذكرياته وسط حضورٍ محبّ للأردية، امتلأ المكان بسحر الكلمات. فالمنطقة التي كانت يومًا عشوائية صارت اليوم فضاءً ثقافيًا يضيء دلهي، حتى إن أحد رجال الشرطة قال بابتسامةٍ لا تُخفى:"قبل عام واحد، كان هذا المكان حيًّا فقيرًا… واليوم انظر إليه، كأنه تحوّل إلى حديقة ولدت من العدم ثم أزهرت بكل هذا الجمال".
وبين أحواض الزهور، بدا الليل نفسه وكأنه يلين تحت أنفاس المكان. وعلى الجسر البعيد، كانت أضواء السيارات تتلألأ كيراعات تهدي الطريق. وفي تلك اللمحات الصغيرة، يشعر المرء أنه لا يعيش في مدينة فحسب، بل في فصلٍ من حكاية كبيرة تتفتح من حوله.
اقرأ أيضًا: دهرمندرا… من شاب حلم بالتمثيل إلى أيقونة خالدة في ذاكرة الهند
وكانت من أجمل صفحات تلك الحكاية تلك اللحظة الليلية الهادئة، حين فتح غلزار دفاتر ذاكرته وقال بنبرة يملؤها الحنين: "أبّوجي!...أجيد السباحة، ولكنني لا أهتدي إلى شاطئ".