يوسف أبو لوز
في عام 1968م، أنفقت الإدارة الثقافية في جامعة الدول العربية على ترجمة "قصة الحضارة" للباحث والمؤرّخ وول ديورانت، وجاء الكتاب في العديد من المجلّدات المنشورة بطريقة مهنية، سواء في الطباعة أو التجليد أو نوعية الورق، قبل أكثر من نصف قرن من الزمان، ومن الواضح أن الجامعة قد تكفّلت بالكثير من الالتزامات المادية والعملية التي تطلّبها مشروع ترجمة بهذا الحجم من الوقت، وفرق المترجمين، والمال.
شهدت مصر، أيضًا، في الستينات والسبعينات، مشاريع ترجمة كبيرة للآداب والفنون العالمية، من بينها كتاب "التحوّلات"، و"فن الهوى" لِاوڤيد، وفي الكويت صدرت عن سلسلة "عالم المعرفة" التي تأسست في عام 1978م، سلسلة من الترجمات المتعلّقة بالمسرح العالمي بإشراف أحمد مشاري العدواني (1923-1990)، وهو مشروع كبير قام عليه رجال ثقافة وفكر ونشر، أسّسوا فعلاً للمفهوم الثقافي والمعرفي لظاهرة الترجمة في الوطن العربي، وصدرت عن المشروع الكويتي آنذاك "خزانة" من المؤلفات الأدبية والتاريخية والجمالية، كانت تباع بأسعار أقل من رمزية في الوطن العربي، والمهم في ذلك المشروع أنه اعتمد على آليات توزيع واسعة وسريعة، بحيث كان الكتاب الصادر في الكويت يوزّع في مكتبات وأكشاك الكتب في العواصم العربية بوقت قياسي.
شهد الوطن العربي، أيضًا، في سوريا والعراق، مشاريع ترجمة كبيرة في مستوى ما كان معمولاً عليه في مصر والكويت في السبعينات والثمانينات، وقبل هذا الوقت الثقافي العربي القديم، وصدرت عن وزارتي الثقافة في دمشق وبغداد مجلّات دورية شهرية وفصلية متخصصة في ترجمات الآداب الأجنبية، كما صدرت مؤلفات عالمية مسرحية وروائية وشعرية عن مؤسسات الثقافة العربية آنذاك في القاهرة، وبيروت، ودمشق، وبغداد، والكويت، من خلال فرق مترجمين عرب محترفين، وأساتذة في فن وتاريخ وثقافة الترجمة، من الثقافات الغربية والآسيوية إلى اللغة العربية.
كانت تلك ظاهرة عربية بالغة الحركة، والتأثير الأدبي والمعرفي في الثقافة العربية، وفي الكتابة العربية بشكل خاصّ، وبشكل أخصّ ذلك التأثير الذي ظهر في القصيدة العربية التي شهدت تحوّلات جذرية في بناءاتها الفنية واللغوية منذ الأربعينات والخمسينات، وهي الفترة التي شهدت أيضًا صعود حركة الترجمة من لغات العالم إلى العربية..
اقرأ أيضًا: المخطوطات العربية في مكتبة جامعة همدرد بنيودلهي
لأسباب عديدة، من الصعب توصيفها بدقة الآن، تراجعت تلك المشاريع الترجمية العربية، بل انتهى الكثير منها إلى الغياب والنسيان.. واليوم، ومنذ العقود الثلاثة الأخيرة، جاءت الإمارات في طليعة البلدان العربية التي أعادت ثقافة الترجمة إلى الواجهة الحيوية، في إطار مشاريع عالمية بكل معنى الكلمة، وإذا كان تاريخ الترجمة العربي الذهبي قد تراجع في بعض مراكزه وعواصمه العربية، فإن هذا التاريخ الذهبي قد بدأ فعلاً في الإمارات، بما يشكل ظاهرة ثقافية إماراتية رفيعة المستوى المهني، وتشهد على ذلك حركة النشر والترجمة والنقل الحرّ لثقافات وحضارات العالم إلى العربية، من خلال العديد من مؤسسات العمل الثقافي المحلي والعالمي في الدولة.