ضبابٌ لا صوت له… هكذا يتسلّل التطرّف

13-11-2025  آخر تحديث   | 13-11-2025 نشر في   |  أحمد      بواسطة | عاطر خان 
ضبابٌ لا صوت له… هكذا يتسلّل التطرّف
ضبابٌ لا صوت له… هكذا يتسلّل التطرّف

 


عاطر خان*

يتسلّل التطرف الإسلامي في الهند بصمت، كضبابٍ ينساب في عتمة الليل، لا يُدرك وجوده إلا حين يبدأ يطمسَ الحدود بين المعتقد والتطرف.

لكن ذلك الضباب الخافت ما لبث أن كشف عن أنيابه، إذ تمزق هدوء دلهي فجأةً بانفجار سيارة قرب القلعة الحمراء يوم الإثنين الماضي، ليتحوّل الهدوء النابض بالحياة إلى صرخةٍ دامية في قلب المدينة.

وقد خلّف الانفجار — في مشهد يعيد إلى الذاكرة أحداث التسعينيات الملطّخة بالعنف— أكثر من عشرة قتلى وعشرات الجرحى، منهياً في لحظةٍ عنيفة سنواتٍ من الهدوء الهش الذي عرفته دلهي خلال الفترة الماضية.

وتفاقم وقع الصدمة حين اكتشف المحققون أنّ الضالعين في هذه المؤامرة لم يكونوا مسلّحين متمرّسين، بل أطباء... أشخاص يفترض أن تكون مهمتهم إنقاذ الأرواح لا إزهاقها.

وتقول السلطات إن المتهمين كانوا جزءًا من مجموعة تخطّط لتفجير 380 كيلوغرامًا من نترات الأمونيوم، وإنهم لم يكونوا يعملون بمفردهم.

وتتجاوز خيوط هذه المؤامرة حدود الهند، إذ سافر كلٌّ من الطبيب عمر والطبيب مزمل والطبيب عديل إلى تركيا عام 2020م بدعوة من الطبيب أوكشا، غير أنّ المضيف لم يظهر مطلقًا ليتقدّم بدلًا منه شخص عرّف نفسه باسم جان بهاي وادّعى أنه من أصولٍ كشميرية. وخلال فترة إقامتهم، التقى الأطباء بأشخاص من سوريا والأردن وفلسطين. و يتّضح اليوم أن هذه اللقاءات لم تكن اجتماعية تمامًا، بل تحمل طابعًا أقرب إلى التخطيط والترتيب.

وأصبحت، في الهند، الدردشات المشفّرة على تيليغرام، والمجموعات الخاصة على واتساب وسيغنال، بمثابة غرف اجتماعاتهم الافتراضية.

والتحق مزمل وعمر بإحدى جامعات بفريد آباد كمحاضرين، وجعلا منها مقرًّا لنشاطهما، حتى إنهماحصلا على رخص قيادة محلية ليتماهيا بسهولة مع البيئة المحيطة.

وتكشف التحقيقات أن الطبيبة شاهين، البالغة 47 عامًا والمطلّقة، والتي تربطها علاقة عاطفية رومانسية بالطبيب مزمل البالغ 33 عامًا، قامت بتوفير مبلغ يقارب 2.2 مليون روبية لشراء المواد اللازمة للهجوم المخطّط.

وتشير الأدلة إلى أنّ قنوات تواصلهم وروابط التمويل التي اعتمدوا عليها امتدّت لتشمل عناصر مرتبطة بتنظيم داعش وشبكات إرهابية عالمية أخرى.

وعندما وصلت وسائل الإعلام إلى منزل الطبيبة شاهين في لكناو، وجدوا والدها المسنّ غارقًا في صدمةٍ قاسية؛ رجلًا عاجزًا عن استيعاب أن أبناءه — الذين مثّلوا له يومًا الفخر والرجاء — باتوا متهمين بمثل هذه الخيانة.

فمثل هذا الشخص يمكن أن ينعكس سلوكه سلبًا على المجتمع المسلم بأكمله، بحيث يؤدّي إلى تعميم الشك على كل من يرتدي القلنسوة والكرته والبيجامة.

وحين أحاط به مراسلو التلفزيون ينهالون عليه بالأسئلة، كان الرجل المسنّ يتوقف قليلًا قبل كل إجابة، كأن الكلمات تبحث عن طريق للخروج. وكان يؤمن بعمق أنّ أبناءه لامعون؛ فقد ناضلوا سنواتٍ لعبور الامتحانات الطبية القاسية في البلاد.

وربما كان، في تلك الفواصل القصيرة بين إجاباته، يتأمّل ما إذا كانت هناك أي مؤشرات خفية قد فاتته حول تورّط ابنته وابنه في أنشطة إرهابية. وهل كان بوسعه — لو التقط تلك الإشارات في وقت أبكر — أن يمنع انزلاقهما نحو التطرف؟

وفي أزقّة دلهي القديمة، حين وصل الصحفيون إلى المنزل المتواضع لمُحسن علي — سائق الريكشا الكهربائية الذي قُتل في انفجار القلعة الحمراء— وجدوا الحزن محفورًا على وجوه الجميع؛ وجوهٌ منطفئة الملامح، تحمل أثر الفاجعة كأنها نقشٌ لا يمّحي.

وأما زوجته وطفلاه اللذان ما زالا في مرحلة الدراسة، فبدا أنهم يعيشون حالة شلل تام أمام هذا الفقد المفاجئ. والجيران يهمسون بالتعازي وبالخوف في آنٍ واحد. ويبقى السؤال الذي يخيّم على المكان كلّه: من سيتكفّل برعايتهم الآن؟

ويرى المحققون أن رحلة الأطباء نحو التطرف بدأت في سريناغار، حيث يُقال إن رجل ديني أخبر مزمل وعمر بأنهما "مختاران لمهمة أسمى" — مهمة لا تقوم على العلاج، بل على خدمة قضية يعدّها مقدّسة.

ومن المفارقات أنّ أكثر من يقع فريسةً للتطرف هم أصحاب الذكاء؛ فالعقل لا يغيب عنهم، بل يُستدرجون إلى مسارٍ مضلَّل. وفي تطوّر منفصل، ألقت فرقة مكافحة الإرهاب في ولاية غوجارات مؤخرًا القبض على الطبيب أحمد محيي الدين سيد، المقيم في حيدر آباد والمتخرّج في الصين، إلى جانب شخصين آخرين يشتبه بتورطهما.

وتقول الجهات الرسمية إن هذه الثلاثة الأشخاص كانوا يعمل على تطوير مادة الريسين، وهي سمّ فتاك يُستخلص من بذور الخروع، وكانوا يخطّطون لاستخدامه في هجمات إرهابية تعتمد الأسلحة البيولوجية. وقد أجروا بالفعل عمليات استطلاع ميداني في لكناو ودلهي وأحمد آباد.

وكشفت الاعتقالات عن روابط مروّعة مع شبكاتٍ متطرفة عالمية تجري تجارب على أساليب الحرب الكيميائية.

ويُبرز تورّط مهنيين متعلمين في مخططات إرهابية تساؤلًا جوهريًا يفرض نفسه: كيف ينتقل العقل المتخصص إلى إلى أداة لأيديولوجيا متطرفة؟ وما العوامل التي تجعل المسار الفكري ينحرف من التحليل إلى التلقين؟

فالأطباء، الذين كانت مهنتهم إنقاذ الأرواح لا إزهاقها، تحوّلوا إلى أدوات للموت. ويكشف هذا التحوّل مدى قوة الإقناع والتلاعب حين ينفصل الإيمان عن التعاطف الإنساني.

وتمّ إقناعهم  بأن الموت في سبيل العقيدة هو أسمى أشكال التضحية. فغاب عنهم أن الاختبار الحقيقي للإيمان يكمن في القدرة على العيش بكرامة، وفي أداء الواجب تجاه الأسرة والمهنة والوطن بروحٍ قائمة على النزاهة. فالغاية الأسمى في الحياة ليست الموت من أجل فكرة، بل أن يعيش الإنسان بكرامة.

ولم تبلغ أي حضارة درجة الكمال يومًا، لكن ما يضمن استمرارها ليس تراكم الشعور بالظلم، بل نمط الوعي الذي تتبناه؛ شجاعة التفكير النقدي، والقدرة على مقاومة خطاب الكراهية، والحكمة في تفضيل الحياة فوق الأيديولوجيا.

ولا تقتصر مسؤولية الهند على معاقبة المتورطين فحسب، بل تمتدّ أيضًا إلى منع الانزلاق نحو التطرف قبل وقوعه. فالحكومة مطالَبة بالتعامل بحزم مع من يخطّطون لأعمال الإرهاب، وفي الوقت نفسه بإطلاق برامج فعّالة لإزالة التطرف وإعادة التأهيل الفكري، مبادراتٍ تستهدف العقول قبل أن تتوغل بعيدًا في الضباب.

ويجب أن يكون كلّ هندي — مهما كان انتماؤه الديني — جزءًا من هذا الجهد. فعلى الأهل والمعلمين وقادة المجتمع أن يراقبوا الشباب، سواء في حياتهم اليومية أو في عالم الإنترنت، لا بدافع الشك، بل بالرعاية والاهتمام حتى لا يختلط عليهم التطرف بالإيمان.

اقرأ أيضًا: أبو الكلام آزاد وإرث "ثقافة الهند" في مدّ الجسور مع العالم العربي

فالتطرّف لا يطرق الأبواب بصوتٍ مرتفع؛ بل يتسرّب بهدوء، كضبابٍ خفيف يعمي البصيرة قبل أن يشتعل.