ثاقب سليم*
مع اقتراب الانتخابات التشريعية في ولاية بيهار، برزت على منصات التواصل الاجتماعي موجة من الخطاب التعبوي الموجّه إلى الناخبين المسلمين، تدعوهم إلى الاصطفاف خلف "الحزب المسلم" الذي يمثلهم حصريًا، ، بزعم أن الأحزاب التقليدية لا تعبّر بصدق عن قضاياهم ولا تتبنّى مصالحهم الجوهرية ولا تدافع لا تدافع فعليًا عن قضايا المسلمين.
وفي السياق السياسي الراهن بولاية بيهار، يتخذ الخطاب الداعي إلى التصويت لـلحزب المسلم بُعدًا عمليًا يشير ضمنيًا إلى حزب "مجلس اتحاد المسلمين لعموم الهند" بزعامة أسد الدين الأويسي، الذي سبق أن حصد خمسة مقاعد في الانتخابات الماضية قبل أن يخسر أربعة منها بسبب الانشقاقات. ويهدف هذا المقال إلى تفنيد الخطاب الداعي إلى حصر التصويت في حزبٍ مسلم، حتى وإن صدر عن شخصياتٍ مسلمة مؤثرة ذات نوايا حسنة.
ما الذي قد يترتب على تصويت المسلمين لحزبٍ يعلن صراحةً أن سياساته موجّهة حصريًا للمسلمين؟
وتنبع المشكلة من الفكرة الخاطئة التي تفترض أن المسلمين يشكّلون جماعة واحدة متجانسة . فالحقيقة أن المسلمين ليسوا كتلة واحدة موحّدة. فداخل المجتمع المسلم توجد تنوّعات مذهبية وطبقية وثقافية ولغوية، ومصالحها تختلف وتتعارض أحيانًا.
فمصالح المسلمين في المدن تختلف عن مصالح نظرائهم في القرى، والمسلم في كشمير يختلف في ظروفه الاجتماعية والسياسية عن المسلم في بيهار أو كيرالا. كذلك، تختلف معتقداتهم بين الشيعة والسنّة، ولا يمكن اختزالهم في إطار واحد.
وباختصار، فإن الفكرة التي تنطلق من افتراض أن المسلمين في الهند يشكّلون جماعة متجانسة هي فكرة فاشلة منذ بدايتها.
والآن، لنفترض أن المسلمين يُشكّلون جماعة واحدة متجانسة وبدأوا يصوّتون بشكلٍ جماعي لحزبٍ يقوده مسلمون ويعبّر عن قضايا المسلمين، فماذا ستكون النتائج؟
في الديمقراطية النظرية يُفترض أن الحزب الحاكم يعامل جميع المواطنين بالمساواة، لكن في الواقع تركز الأحزاب على مؤيديها والفئات القابلة لاستمالتها، وتتجاهل من يعارضها، وهو ما يحدث في معظم الديمقراطيات حول العالم.
إذا اعتُبر المسلمون كتلة تصويتية تصوّت لحزبٍ مسلمٍ واحد، فماذا سيجنون من ذلك؟
ويظهر هذا الطرح محدودية الجدوى السياسية لفكرة التصويت الديني الموحّد. فإذا افترضنا أن المسلمين في الهند يصوّتون جميعًا لحزبٍ يُمثلهم دينيًا، فإن المكاسب الانتخابية المحتملة تظل محدودة للغاية. فمن أصل 543 دائرة انتخابية في البرلمان الهندي (لوك سابها)، لا تتجاوز الدوائر التي يشكّل فيها المسلمون أكثر من 50% من السكان سوى 15 دائرة فقط، ما يعني أن الحزب المسلم لن يتمكن من الفوز إلا بعددٍ محدود من المقاعد حتى في حال تصويتٍ موحّد. وتوجد أربع عشرة دائرة انتخابية تتراوح فيها نسبة المسلمين بين 40% و50%، ما يمنح الحزب المسلم فرصًا إضافية للفوز فيها، ليرتفع إجمالي المقاعد المحتملة إلى تسعةٍ وعشرين في أفضل الظروف. وعدد الدوائر التي تتراوح فيها نسبة المسلمين بين 30% و40% لا يتجاوز تسع عشرة دائرة.
ويُظهر هذا السيناريو محدودية الجدوى السياسية لحزبٍ يقوم على أساس ديني بحت. فعمليًا، من غير المرجّح أن يحظى الحزب بتأييد غير المسلمين بسبب طابعه الأيديولوجي الضيق، ما سيؤدي إلى استقطابٍ انتخابي متزايد يُضعف فرصه التنافسية .وفي ظل هذا الواقع، لن يتمكّن الحزب من تجاوز حدود 20 إلى 25 مقعدًا في البرلمان الهندي المكوّن من 543 مقعدًا، وهو عدد لا يمنحه وزنًا فعليًا في عملية صنع القرار. حتى في حالة تشكّل حكومة ائتلافية، سيبقى تأثيره محدودًا. وإن الطابع الديني الواضح لخطابه سيجعل خياراته للتحالف مع القوى السياسية الأخرى ضيقة ومحدودة.
وإذا انحصر تصويت المسلمين في حزبٍ واحد، فستتوقف الأحزاب الأخرى عن السعي لكسب دعمهم أو الاهتمام بقضاياهم، مما سيؤدي إلى تراجع تمثيلهم السياسي وخروجهم تدريجيًا من دوائر الاهتمام وصنع القرار.
وتوجد نحو 20 دائرة انتخابية في ولاية بيهار يمتلك فيها المسلمون القدرة على تحقيق الفوز استنادًا إلى أصواتهم فقط. لقد واجه المجتمع المسلم في الهند ظاهرة التهميش في فترات سابقة، وهي ظاهرة لم تنتهِ تمامًا حتى اليوم. فحتى عام 1967، كانت حزب المؤتمر الوطني الهندي يتمتع بسيطرة شبه مطلقة على المشهد السياسي، لكن انتخابات ذلك العام شكّلت نقطة تحول؛ إذ بدأ الفضاء السياسي الهندي بالانفتاح تدريجيًا.
وشهدت تلك الفترة نهاية هيمنة حزب المؤتمر مع ظهور الأحزاب الجديدة مثل بهاراتيا جانا سانغ والاشتراكيين والشيوعيين، مما فتح الساحة أمام تنافس سياسي واسع، وأصبحت الأحزاب تتسابق لاستقطاب مختلف فئات الناخبين، بما فيهم المسلمون.
عينت أنديرا غاندي بركة الله خان أول كبير وزراء مسلم في ولاية راجستان عام 1971م، ثم تبعته ثلاثة أسماء أخرى خلال 12 عامًا: عبد الغفور في ولاية بيهار، وعبد الرحمن أنتولاي في ولاية ماهاراشترا، و السيدة أنورة تيمور في ولاية آسام. كما شهدت ولايتا كيرالا ومانيبور كبيري وزراء مسلمين في السبعينيات. ورغم الصورة السائدة، ضمّ حزب جانا سانغ أيضًا شخصيات مسلمة بارزة مثل مولانا إمداد صبري، كما دعم في عام 1962م انتخاب مرزا أحمد علي لمجلس الشيوخ. وأما الشيوعيون والاشتراكيون، فقد سعوا بدورهم إلى استقطاب المسلمين ضمن صفوفهم السياسية.
وخلال الفترة من الستينيات إلى الثمانينات، كان المسلمون منفتحين على مختلف الأحزاب، مما دفع جميع القوى السياسية إلى السعي لاستقطابهم والتعبير عن قضاياهم، إلا أن المشهد تغيّر بعد فوز حزب المؤتمر الوطني بأغلبية كبيرة عام 1984م وطرح حزب بهاراتيا جاناتا قضية رام جانم بهومي، إذ لم يعد المؤتمر يرى حاجة ملحّة لكسب أصوات المسلمين، في حين بدأت توجهات حزب بهاراتيا جاناتا تُثير قلقهم وشعورهم بالتهديد. ومع تقلّص الخيارات، اتجه المسلمون نحو الأحزاب الاشتراكية والشيوعية، ومع ذلك لم تُغلق الأبواب تمامًا أمام التواصل مع بقية الأحزاب.
وفي أواخر التسعينيات، حين تولى أتال بيهاري فاجبايي رئاسة الحكومة، منح حزب بهاراتيا جاناتا مناصب بارزة لعدد من الشخصيات المسلمة مثل سِكندر بخت وسيد شاه نواز ومختار عباس نقوي، كما شغل بعض المثقفين والبيروقراطيين المسلمين مناصب مهمة. ومع ذلك، أصبح الحزب في تلك الفترة منبوذًا سياسيًا لدى المسلمين، وأُعتبر أعضاؤه المسلمون خونة لجماعتهم، ما جعل الحزب يفقد الأمل في كسب أصواتهم. واليوم، لا يضم الحزب أي وزير أو نائب مسلم في البرلمان، ما يعكس قَطعًا متبادلًا للعلاقة بين الجانبين، إلا أن الخسارة الأكبر وقعت على المسلمين أنفسهم الذين فقدوا أي تمثيل داخل الحزب الحاكم.
وأصبحت الأحزاب المعارضة الخيار الوحيد أمام المسلمين بعد ابتعادهم عن حزب بهاراتيا جاناتا، مما جعل أصواتهم مضمونة لتلك الأحزاب التي لم تعد تبذل جهدًا لمعالجة قضاياهم، فوجد المسلمون أنفسهم في موقف سياسي ضعيف وأشبه بالرهينة داخل المشهد الانتخابي.
وعلى مدى العقدين الأخيرين، تزايد شعور الشباب المسلم بالتهميش السياسي وبأن الأحزاب لا تُولي اهتمامًا كافيًا لقضاياهم، ما أدى إلى تكرار الدعوات لتأسيس حزب سياسي يمثل المسلمين. غير أن هذا التوجه، بدل أن يقدّم حلًا، من شأنه تعميق العزلة السياسية للمسلمين وإبعادهم أكثر عن المشاركة الفاعلة في المشهد الوطني وصنع القرار.
ولن يقتصر الضرر الناتج عن هذا النهج على المسلمين فقط، بل سيمسّ المجتمع والوطن أيضًا. والحل يكمن في أن يشارك المسلمون بفاعلية في جميع الأحزاب، لضمان تمثيلهم داخلها وجعل كل القوى السياسية حريصة على كسب أصواتهم والتفاعل مع قضاياهم ضمن الإطار الوطني الشامل.
اقرأ أيضًا: حين تحولت السياسة إلى معركة هوية: انتخابات بيهار لعام 1946م
وينبغي على الأحزاب السياسية أن تتحمّل مسؤوليتها وتعمل على إشراك المسلمين بجدية في العملية السياسية، إذ لا يمكن لأي بلاد أن تزدهر إذا شعر نحو 14% من سكانها بالإحباط أو فقدان الثقة بالنظام السياسي.